آخر تحديث: 25 / 4 / 2025م - 10:38 م

الاغترابُ النفسي وضَياع الهُوية

محمد الحميدي مجلة اليمامة

النأي عن الذات، والابتعاد عن المجتمع، والبقاء ضمن عزلة اختيارية أو إجبارية؛ يمثل سبيلاً للتعايش، أمَّا من أجل القبول بأفكاره، ورؤاه، ومتغيراته، فعلى المرء أن يزيح الرواسب المتعلقة بالهوية والانتماء، فإذا لم يُزحها؛ ظلَّ في غُربة مُرة، حتّى الممات.

ديوان ”عمتي تتزوج الريح“، للشاعر محمد القرين؛ يحكي قصة اغتراب نفسي؛ ارتبط بالأرض، وانطلق منها لمقاربة إنسانها، إذ هو مهموم بما يعانيه من تغيُّرات سريعة ومتلاحقة، مستعملاً في بنائه الفني أسلوبَ «الانزياح الدِّلالي»؛ حيث دلالة الكلمة الأولى تظل كما هي، وبعد ذلك تلحقها دلالة ثانية، مرتبطة بالأولى، ثم تتكرر العملية، فتنتجُ دلالة ثالثة، مرتبطة بالدلالتين السابقتين، وهكذا يغدو المتلقي في مواجهة شبكة معقَّدة من الإشارات، لا يستطيع فك رموزها؛ إلا عبر قيامه بتأويلها.

تأطير الدِّلالة وتوجيهها؛ كي لا يُخطئَ القارئُ الفهمَ، مهمَّةٌ مارسها الشاعر؛ حيث عمد إلى وضع عتبات للقراءة، هي على التوالي: العنوان، المقدمة، الاستفتاح، إذ لكل عتبة أهمِّيتها في بناء الدلالة، وتكاملها، وتسهيل تلقِّيها، ف ”العنوان“؛ أحال إلى التغيُّرات العميقة والعاصفة، التي لا يمكن التنبؤ بها، في تصرُّفات وسلوكيات العمَّة، التي ستحتفظ بدلالتها المباشرة على الأنثى البشريَّة.

أما في ”المقدمة“؛ فإن انزياحاً يحدث، حين ترتبط العمة بالأرض التي ينتمي الإنسان إليها، ويعيش ويسكن فيها، فيأكل من طعامها، ويشرب من مائها؛ إذ الدلالة هنا انتقلت من المعنى المباشر والحسي، إلى المعنى الجديد الدالِّ على ”القطيف أرض الخطِّ؛ محافظة تتربع كحورية البحر على ضفاف الساحل الشرقي من جسد المملكة العربية السعودية“، فهذا هو الانزياح الدلالي الأول.

يستدعي ”الاستفتاح“ ثلاثة نصوص تراثية؛ اثنان منسوبان للنبي، يصف فيهما العمة بالنخلة ”أكرموا عمتكم النخلة - أحسنوا إلى عمتكم النخلة“، فهذا الانزياح الثاني للفظ العمة، بينما النص الثالث مزمور من مزامير العهد القديم؛ يشبِّه الصديق بالنخلة ”الصديق يزهو كالنخلة وينمو كالأرز في لبنان لأن المغروسين في بيت الربِّ يزدهرون في ديار بيت إلهنا“؛ حيث ينتقل بالدلالة من إطارها الضيِّق الخاص، إلى إطارها العام المنفتح على بلاد العرب، وهذا هو الانزياح الثالث، فالنتيجة أن لفظ ”العمة“ مرَّ بثلاثة انزياحات؛ الأول: ”القطيف“، الثاني: ”النخلة“، الثالث: ”الوطن العربي“.

الانزياحات الثلاثة لا تنفك عن الإنسان، المتصل بالأرض والنخلة، فأيُّ تغيُّر في الدِّلالة، سيكون مؤشراً على التغيُّر في إنسان الأرض، هذا ما تؤكده قصيدة «عندما تنكسر المرايا»، إذ تشير إلى اغتراب الذات، وبعدها عن الأهل والمحيط، كبعد النخلة واغترابها عن إنسان العصر الحاضر:

"غريبٌ إنني في عُقر داري

فلم ألقَ الأحبةَ في جِواري

أحاطوا بي ولكن لا أراهم

أناساً بل يباسٌ في خَضاري

كثيرٌ هم.. ولكنْ في خيالي

قليلٌ في الحقيقةِ باختصارِ"

لجوء المغترب إلى الشعر كوسيلة تعبيرية يبوح من خلالها بمأساته، لم تكن أمراً عبثيًّا؛ إذ جمع بين حكايته لقصته، وإخفائه لهويته، فمنحها بذلك قدرةَ التسلُّل إلى لا وعي الناس، والتغلغُل في لا شعورهم، حتَّى تم ترسيخها كحقيقة من الحقائق «رواية أحداق المرفأ»:

"في ذات شعر سافرت بي أعصُر

من ثقب غيبٍ والرؤى تخضوضر

حملت ملامح قصتي معجونة

بالحب فوق فصولها تتبخترُ"

لكن الشعر لا يكفي لإخراجه من غربته، فها هو انكفأ داخله، حتى غدت هويته على المحك، حيث بدأ بفقدها ونسيانها «مرايا اغتراب»:

"أنا الغريب الذي ما غادر الوطنا

لكنَّما تخذتني غربتي سكنا

أنا غريبٌ وكل الناس تنكرني

حتى أنا لست أدري من أكون أنا"

غربة الذات، تتماثل مع غربة النخلة، لما بينهما من علاقة، لهذا يصرخ الشاعر بالشكوى في قصيدة «بين الفراغ والذاكرة»: ”يشكو النخيل اغتراباً، صوتهُ انفجرا“، أما سبب الاغتراب؛ فيعود إلى فقدانه لأحلامه وآماله، حيث لا يتمكن من تحقيقها، فالحياة بائسة؛ ما دام لا يصل إلى تحقيق ما يريد، ولذا سيظل مقيماً داخل أحزانه، وآلامه، يقول في قصيدة «وجوه»:

”أنا والحزن والآلام.. والآمال والأحلام مهترئة“

لا حلَّ لمشكلة الاغتراب؛ إلا بمجاوزة الإنسان لأحزانه، وآلامه؛ كي يبدأ البحث عن ذاته وهويته، عبر المرور بأسئلة صعبة ومعقدة، يكتنفها الكثير من الشك وعدم اليقين، يقول في قصيدة «مرايا ذاتية» التي تُفتتح ب: ”أحدِّق في مرآة ذاتي..“، ثم تصل إلى:

"أُحدِّق ما بيني وبيني مسائلاً:

أإنكَ إنِّي؟! ثمَّ قلتُ: كأنني

أُفتِّش في الأشياء عنِّي، ولم أزل

لعلِّي أراني في المرايا لعلَّني"

نتائج البحث عن الذات والهوية، لا تُفضي إلى شيء ذي قيمة، بل على العكس، تؤكد سيطرة السلبية والسوداوية، إذ تغدو نظرة الإنسان للحياة قاتمة وكئيبة، تهدده بضياع هويته وانمساخه عن أرضه وثقافته، وهو ما تصوِّره قصيدة «مرايا اشتباه»:

"ولقد نظرت إلى المرايا مرة

فوجدتُني أنا لستُني أو ذاتي؟؟

ورأيتُ شخصاً آخراً لي مشبهٌ!

لكنه غيري! بنفس صفاتي

فسألتُني: هل أنني «أنِّي»؟!

وهل يا «أنَّني» تدرين «مَن» مرآتي؟!"

النتيجة التي تقدِّمها تجربة الديوان؛ تتمثل في أن: فقدان الهوية والاغتراب النفسي؛ يقودان الإنسان إلى السلبية والعدمية، حيث وجوده بات بلا معنى، وبلا هدف، لكونه لم يتحرَّر من القيود، ولم يُجب عن الأسئلة الهامة في حياته، لهذا ظلَّت ذاته تائهة وضائعة، هذا ما تصرِّح به قصيدة «سراب بقيعان الخيال»:

"فتشت عنّي في هذا الوجود

فما وجدتني كائناً فيه

ولا عدَما"