آخر تحديث: 25 / 4 / 2025م - 10:38 م

الأحمق عدو نفسه

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

الحمق صفة مذمومة اجتماعية، والمتصف بها، يعيش عالمه وحده، حيث لا خل ولا صديق. وحتى ضمن أفراد عائلته، يغدو منبوذاً. يتصرف بعقلية أن الكل ضده، وأنه الوحيد المالك لزمام الحقيقة. وفي الحالات الاجتماعية، فإن ضرره محدود يشمل النطاق الذي يعيش ضمنه. لكن الأخطر، حين تقود زمام المقادير بشخصية من هذا النوع، واجهة السلطة، ويصبح المتربع على عرش أقوى دولة في العالم، كما هو الحال، مع الرئيس الأمريكي الراهن، دونالد ترامب.

ما يقود إلى هذا الحديث، هي الفوضى العالمية، التي نتجت عن القرارات الضريبية، التي فرضها الرئيس ترامب، على جميع دول العالم، والتي كانت جزءاً من موضوعنا السابق، الذي حمل عنوان، «سياسات ترامب - هجمات مرتدة».

الوقائع التاريخية، لما بعد الحرب العالمية الثانية، توجت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي على عرش الهيمنة العالمية، وبات لدينا عالماً بقطبين رئيسيين، وأتباع كبار، لكلا القطبين. فأوروبا الغربية، واليابان وصين الكومنتانغ، وبعض جمهوريات الموز، في أمريكا اللاتينية، وإيران وتركيا وبعض أجزاء الوطن العربي، كانت من حصة اليانكي الأمريكي. أما أوروبا الشرقية، وبعض من دول البلقان، وأراض واسعة من القارة الآسيوية غدت من نصيب الاتحاد السوفييتي.

ما ميز الولايات المتحدة الأمريكية، في حينه، عن غيرها من الإمبراطوريات، أنها نفذت أضخم مشروع إعادة إعمار كبير، في الدول الأوروبية التي احتلتها، عرف بمشروع مارشال. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، فبعد أن تحول السلاح النووي، من قوة دمار هائلة، بيد أمريكا، تحول بعد كسر احتكاره، بامتلاك السوفييت له، إلى قوة ردع، غير قابلة للاستخدام، وتحول إلى ضمان لعدم اشتعال الحروب المباشرة بين من يملكونه، تعهدت أمريكا لحلفائها الأوروبيين، من غير مقابل، بأن تشمل مظلتها النووية، جميع البلدان الأوروبية الحليفة.

هكذا تصرفت الولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، باعتبارها امبراطورية عظمى، واضعة في حسبانها الكلف الباهظة التي تتكفل بها، ومن يطلب الحسناء لم يغلها المهر.

وحين اندلعت الحرب الباردة، بين العملاقين منذ مطالع الخمسينات من القرن الماضي، تأسس حلف الناتو، ليؤمن الحماية لحلفاء أمريكا، فقام الاتحاد السوفييتي بتأسيس حلف وارسو، لحماية الكتلة الاشتراكية. أما الذين بقوا خارج الدائرة، فوجدوا ملجأهم في تشكيل كتلة ثالثة، جمعها ميثاق مشترك، جرى التوقيع عليه من قبل مؤسسيه، عرف بميثاق مؤتمر باندونغ، ضم البلدان التي نأت بنفسها عن الانخراط مع أي من المعسكرين، الرأسمالي والاشتراكي، وعرفت ببلدان العالم الثالث.

كان الشارع في عموم البلدان النامية، يموج بحراك صاخب وعنيف، وفي القلب منه تتموضع شعارات الحرية والاستقلال، والكرامة الوطنية. ومن الطبيعي، أن تكون الأقطار العربية، التي خاضت معارك الاستقلال، وتمكنت من إنجاز استقلالها، ضمن الكتلة الثالثة.

استمرت أوضاع العالم، على ما هي عليه، حتى الأيام الأخيرة، من الثمانينات من القرن الماضي، حين سقط حائط برلين، ولم يمض سوى وقت قصير، حتى أسقط حلف وارسو، ليتبعه، انفراط الاتحاد السوفييتي، وتربع أمريكا قطباً أوحد، على عرش الهيمنة الدولية. ولتبدأ حروب الإخضاع، التي شنتها أمريكا، والتي انتهت باحتلال أفغانستان والعراق.

ولأن هيمنة قطب وحيد، على صناعة القرار الدولي، هو نشاز في التاريخ الإنساني، لم يقدر للأحادية القطبية أن تستمر طويلاً. وعاد الدب القطبي، بقيادة القيصر الجديد فلاديمير بوتين إلى البروز كعامل تحد، وإن يكن غير متكافئ، للإدارة الأمريكية. وبرز التنين الصيني، كمارد لا يضاهى اقتصادياً، في حركته وجبروته، ليتصدر، وبشكل يكاد يكون متفرداً، جميع الأسواق العالمية، ولتصدق نظرية الدورة التاريخية، ومقولة لو دامت لغيرك ما وصلت إليك.

أدرك رؤساء الولايات المتحدة، وبشكل خاص، بيل كلينتون وباراك أوباما وجو بايدن، أن العالم قد تغير. صحيح أنهم واصلوا تأمين مصالح الولايات المتحدة، وذلك أمر بديهي، فقد أوصلهم الناخب الأمريكي إلى الواجهة، ليقوموا بذلك.

وبالتأكيد فإن مقالة قصيرة كهذه، ليس بمقدورها، تناول البرامج السياسية، للحزبين الرئيسيين، المتنافسين على الحكم بأمريكا. لكن لا مناص من الإشارة، إلى أن الجمهوريين يستمدون منهجهم الاقتصادي، من مبدأ آدم سميث، في كتابه «ثروة الشعوب»، «دعه يعمل»، بما يعرف بالاقتصاد الحر، الذي يعتمد تقليص الضرائب، وبالتالي دور الدولة، في حين يتبنى الديمقراطيون دولة الرفاه.

الرئيس الحالي، ترامب، رغم أنه جمهوري، لكنه لا يتصرف وفق منهج حزبه، ولا يلتزم بموقف أسلافه تجاه حلفاء أمريكا، بالقارة الأوروبية. وسياساته الضريبية، تجاه الدول، وبشكل خاص تجاه الصين الشعبية، هي في المبتدأ والخبر، ضارة بمصالح المواطن الأمريكي العادي، الذي توفر له الصناعة الصينية، بضائع بأرخص الأثمان.

لنتصور واقع الأمريكيين، حال تطبيق مطالب ترامب الضريبية بحق الصين، بـ 125 في المئة، المؤكد أن الصينيين، الذين يجيدون لعبة التجارة، سيرفعون قيمة بضائعهم بتلك النسبة، أو أكثر، فهم في النهاية تجار مهرة، يعملون على زيادة أرباحهم، وتأمين مصالحهم. وترامب بمطالبه الضريبية، سواء تجاه الصين أو غيرها من البلدان لا يلحق الأذى إلّا بشعبه، وبمستقبل حزبه السياسي، أما الآخرون، فقادرون على معاملته بالمثل، وإلحاق الضرر به، ولتصدق المقولة، التي حملت عنوان هذا الحديث: الأحمق عدو نفسه.