من لقاح كورونا إلى مقهى سقراط.. رحلة في أهمية التفكير النقدي بالقطيف

استضاف نادي الخط الثقافي بمحافظة القطيف، مساء أمس، محاضرة قيّمة حملت عنوان ”التفكير النقدي“، قدمها الدكتور هادي آل شيخ ناصر، وأدار دفة الحوار فيها السيد وليد الهاشم، وسط حضور لافت من المهتمين بالشأن الثقافي والفكري.
في مستهل اللقاء، قدم مدير الحوار، السيد الهاشم، نبذة تعريفية موجزة عن سيرة المحاضر الدكتور آل شيخ ناصر والمناصب التي شغلها، ممهداً للموضوع بطرح تساؤلين محوريين حول أهمية تناول التفكير النقدي في الوقت الراهن، وسبب اختيار الدكتور هادي للحديث في هذا المضمار.
وأشار الهاشم إلى أن الانفتاح العالمي الهائل عبر وسائل التواصل، وتقنيات الترجمة الفورية، وثورة الذكاء الاصطناعي، وضع المجتمعات أمام تدفق معلوماتي هائل يختلط فيه الصواب بالخطأ، مؤكداً أن حتى المسلمات قد تتغير بتغير السياقات.
ولفت إلى أن سمات عصر ما بعد الحداثة، كال ”تشظي“ وتحول الإنسان لكائن ذي بعد مادي واحد، بالإضافة إلى حالة ”اللانخبوية“ التي أتاحت للفرد العادي أن يكون فاعلاً مؤثراً، تستدعي امتلاك أدوات فرز وتقييم، من أهمها التفكير النقدي.
ونقل عن الدكتور رشدي راشد أهمية ”المعارف قبل العلمية“ غير الملموسة، كالأفكار والسلوكيات المجتمعية، والتي يشكل التفكير النقدي جزءاً حيوياً منها في الحياة اليومية.
وعن سبب استضافة الدكتور آل شيخ ناصر، أوضح الهاشم أنه بالإضافة إلى براعته كطبيب، يتميز بشخصية مرنة ومنفتحة على آراء الآخرين ورغبة صادقة في فهم وجهات نظرهم، وهو ما تجلى في تأسيسه لمبادرة ”مقهى سقراط“ في سيهات عام 2017 م.
وأضاف أن هذه التجربة، التي تهدف إلى نشر ثقافة الحوار المجتمعي البنّاء، سرعان ما لاقت صدى واسعاً وتكررت في مدن سعودية مختلفة كالرياض والخبر والأحساء وتبوك وأبها.
بدوره، استهل الدكتور هادي آل شيخ ناصر محاضرته بسؤال جوهري حول ما إذا كان التفكير النقدي يُعد حاجة ملحة أم مجرد رفاهية فكرية.
وعرض صورة كاريكاتيرية تُلخص واقعاً مؤلماً يتمثل في انجراف البعض نحو الإشاعات الطبية المنتشرة عبر وسائل التواصل، مما يعرض حياتهم للخطر، مقابل التشكيك في مصداقية الأطباء والمؤسسات الصحية.
وأكد أن غياب التفكير النقدي يفاقم أثر هذه الأفكار المضللة، بينما يمثل التفكير النقدي خط الدفاع الأول ضدها.
واستعرض الدكتور آل شيخ ناصر أمثلة حية لتبعات تلقي المجتمع للإشاعات والأفكار غير المدعومة بأدلة، منها التردد الذي واجه لقاح كوفيد -19، والموقف السلبي من اللقاح الثلاثي الفيروسي الذي ارتبط خطأً بالتوحد بناءً على بحث مغلوط ومُدان للطبيب أندرو ويكفيلد، والذي ثبت لاحقاً تضارب مصالحه.
وأشار إلى المخاوف التاريخية من الكهرباء عند بداية انتشارها، والمعتقدات الخاطئة مثل تسطح الأرض أو كذبة الجاذبية، والتشكيك في حقيقة الهبوط على سطح القمر، والهوس المبالغ فيه بالأغذية العضوية باهظة الثمن، والفهم السطحي لقضايا معقدة مثل الاحتباس الحراري دون إدراك للاختلافات الأكاديمية حولها.
ولاحظ الدكتور أن المثير للاهتمام هو أن هذه الأفكار المغلوطة غالباً ما تأتي في حزمة واحدة لدى نفس الأشخاص، مما يؤكد الحاجة الماسة لتعزيز مهارات التفكير النقدي.
وانتقل المحاضر للحديث عن تجربته مع ”مقهى سقراط“ كنموذج عملي لتنمية التفكير النقدي، موضحاً أن الفكرة بدأت خلال دراسته للماجستير في الولايات المتحدة، حيث تعرف على فلسفة المقاهي السقراطية وواظب على حضورها. وبعد عودته، أسس جلسات مماثلة في المملكة لاقت إقبالاً متزايداً.
وأوضح أن المقهى يعتمد على طرح أسئلة متنوعة، سواء كانت مرتبطة بأحداث جارية أو قضايا فلسفية عميقة، ويقوم الحضور بالتصويت لاختيار موضوع النقاش، مؤكداً أن المقهى ليس محاضرة بل جلسة حوارية مفتوحة للجميع، تنطلق من مبدأ أن الحكمة تبدأ من التساؤل.
وبيّن الدكتور آل شيخ ناصر أن المنهج السقراطي المتبع في المقهى يقوم على مبادئ أساسية كالسؤال والتحقيق، وحب الاستطلاع، والإيمان بأن العقول المجتمعة تتفوق على العقول المنفردة، وأن الهدف ليس المناظرة للوصول إلى فائز وخاسر، بل إن نجاح الجلسة قد يكمن في عدم الاتفاق على تصور محدد.
وأكد أن المقهى يرسخ قيماً هامة كالإنصات الجاد للآخرين، والتفكير الناقد، وتقبل وجهات النظر المختلفة، وتعزيز التسامح الذي قد يكتشف الفرد أنه لم يكن يمتلكه بالقدر الكافي.
واستشهد بمقولات لفلاسفة وعلماء، كأينشتاين وويل ديورانت وأرسطو، تؤكد على أهمية الربط بين العلم والفلسفة وتقبل مناقشة الأفكار دون تبنيها بالضرورة.
وفي سياق متصل، كشف الدكتور هادي عن قصة ترجمته لكتاب ”مقهى سقراط“ لمؤسسه العالمي الدكتور كريستوفر فليبس، وذلك بعد تواصل الأخير معه وتسجيل مقهى سيهات ضمن شبكة المقاهي العالمية، واستضافته في بودكاست للحديث عن التجربة السعودية.
وأشار إلى أن الكتاب المترجم، الذي يتناول أسئلة جوهرية في خمسة فصول، لاقى إقبالاً واسعاً في معارض الكتاب.
واختتم الدكتور آل شيخ ناصر محاضرته بقراءة مقتطف من الكتاب المترجم وعرض صور تذكارية لجلسات مقهى سقراط في مدن المملكة وزيارة المؤسس العالمي لها.
وفي ختام الأمسية، وجه رئيس النادي الاعلامي فؤاد نصر الله الشكر الجزيل للمحاضر ومدير اللقاء والحضور، وقام كل من جلال أحمد المدن وعبدالسلام الخالدي بتقديم درع المنتدى وشهادة التقدير تكريماً للمحاضر ومدير اللقاء على جهودهما.