آخر تحديث: 25 / 4 / 2025م - 10:38 م

الفقد، حياة مطموسة.. كانت مبصرة

كاظم الخليفة * مجلة اليمامة

عند وقوع النازلة، صمت مطبق يلف داخلك. تلك هي حيلة العقل لتأجيل الحكم وتأخير ردة الفعل. لكن سرعان ما ينطلق صوت لشخص آخر من حنجرتك، يفزعك ببحة الجزع الثقيلة ومرارة المفردات. تحاول - دون جدوى - لجمه وتخفيف ثرثرته وهذيانه. يتخطى في جموحه السيطرة على صوتك إلى بقية جوارحك ليحتل صورتك. وتتسع دائرة التشظي وتتعاظم في حالة الفقد. فأنت حينئذ لا تكون مجرد الشخص المنشطر إلى ذاتين - عاطفة وعقل. شخص مختلف بكامل كيانه، تكتشف أنه مقيم داخلك، ويتململ للانفصال عنك. كان جزءا من ذاتك ومتوحدا بك. ”أناة“ أخرى كانت مستقرة داخلك ما كنت تعيها. إنها لفقيدك الذي يبرز طيفه فجأة قبالتك. حينها لا تكون وحدك. صوتان يتناوبان الحديث داخلك: أنت ومن يسعى لمغادرتك. تتشبث به، وتصطنع له محاكمة مستعجلة. عاطفة الحب تنصبها قاضياً، وبقية عواطفك الجميلة تنوب عنك في مرافعتك. مذهولاً تستمع إلى هشاشة تبريره وهزالة دفوعاته في تخليه عنك. تتكرر مفردة ”الموت“ في حديثه كحقيقة يستغرب أنك لا تقف عندها، وتقصيها من منطقك. كما يستثير غضبك أنه لا يعي معنى ”التخلي“. يصبح جدالكما عقيماً، وتبرق أبيات أبي العلاء المعري في عتمة مخيلتك فجأة:

إذا ما عراكُمْ حادثٌ، فتحدّثوا
فإنّ حديثَ القوم يُنسي المصائبا

تقبل مرغماً بهذه التسوية التي يقترحها عليك أبا العلاء المعري. تصطحب معك كلمة ”الموت“ التي ترددت في مجرى دفاعه وتحاول الحديث عنها مع قومك. تتلفت في مجلسك، فتقع عينك على عنوان كتاب للفيلسوف لودفيغ فويرباخ ”أفكار حول الموت والأزلية“. تأنس به متحدثاً، ويشرح لك فلسفته في الموت، ويظن أنك في موقفك هذا ستعي حكمته بتمامها: «يعيش الإنسان إلى الأبد؛ لذلك فالبشر يموتون، لأن الأبدية ليست سوى موت كل ما هو زمني». وعندما يرى الحيرة بادية على وجهك، يحاول ترضيتك: «حقاً، سوف تتحول إلى تراب في يوم من الأيام؛ لكن كل الأفكار النبيلة التي ملكتها، كل ما أحببته بعمق لا يزول. لا شخصيتك ولا لحمك يعيشان إلى الأبد؛ فقط في الحب تعيش بعد الموت». يقرأ فويرباخ ما يجول بخاطرك، وأنك تشبه مقولاته بالتهويمات الصوفية؛ فيحيلك إليهم، مع تأكيده: «الصوفي ليس سوى عقلاني ثمل؛ حين يصبح رصيناً ويقظاً، يصبح عقلانياً». فتذهب إلى ابن عربي الذي يفهم الموت ليس باعتباره فناء، إنما وجود. حياة حقيقية لكنها ”مطموسة“ يتفرق فيها شمل المحبين، وذلك بعدما تخلت عن كونها الحياة ”المبصرة“؛ في تأليفها بينهم وجمع شتاتهم. وعندما يزيدك ابن عربي تعمية، يستدرك فويرباخ، ويقول لك بما يشي إنه يعارض قول صاحبك ابن عربي: «في لحظة الموت، سوف تضطر لأن تصبح سرانياً، أحببت ذلك أم لم تحب. ليس ثمة نصف موت، ما من موت متشعب وغامض؛ ففي الطبيعة، الكل صحيح، كلي، غير منقسم، كامل. والطبيعة ليست بشعبتين؛ إنها لا تراوغ. فالموت هو الانحلال هو الكامل والشامل لكينونتك بمجملها؛ ليس ثمة غير موت واحد فحسب، والذي هو كلي. الموت لا يقضم شيئاً من الإنسان، ولا يترك بقية. الكلية، الإجمالية، هي الشكل والصفة الجذريتان للطبيعة؛ وحين تموت، فأنت تموت كلياً؛ كل ما فيك ميت. لذلك، فقط من خلال التفكر بالموت الطبيعي، هذا الفعل السراني للطبيعة، عليك أن تصبح سرانياً لمرة واحدة على الأقل». حينها سترعبك كلماته، فيردف مُطمئناً: «الموت ليس غير كسارة بندق تقضم فقط القشرة المحيطة الخارجية بحيث تخرج النواة اللحمية، اللذيذة من تلقاء ذاتها. ولأن الإنسان يعرف فقط من الله، يجد في الله فقط ثقته - الذاتية، يشفي نفسه فقط في الله ومن الله؛ الله بالنسبة للفرد هو فقط الحرم الذي لا ينتهك، المرجعية المقدسة، الإثبات المقدس والضمان لذاته ولوجوده الفردي الخاص. ثم يكمل فويرباخ نصائحه، حتى وكأنه يرجعك ثانية لفلسفة ابن عربي التي منحتك في السابق قليلا من الراحة، وخلت أنه نقضها: «كن جيداً لتعترف بالموت، ليس فقط كنهاية حقيقية وصحيحة لوجودك، بل أيضاً كبداية وأرضية حقيقيتين وصحيحتين لوجودك. وحالما تغادر من الوجود في الموت، تدخل وجوداً كذلك فقط في الموت. أليست نهاية شيء هي دائماً بداية حقيقية؟ أليست البذرة البشرية هي البداية الحقيقية للإنسان.. البذرة ممكنة فقط في ظل شرط لا كينونتها، أي فقط في ظل شرط ألا تبقى بذرة، بل تصبح شيئاً مختلفاً».

يلمح فويرباخ التماع الدمع في مقلتيك بعد تحجرهما، فيترنم لك مقطوعة من إنشاده:

«وهكذا فالقلب يحترق عند الموت
لأن الإنسان يكسب معرفة الذات
حيث يغادر البشري من البشري،
حيث يُقسم البشري إلى أنا وموضوع.
وهكذا فالناس تبكي عادة عند الموت،
لأن الدموع تخفض حرارة الألم».

تشيح بناظريك عنهما - فويرباخ وابن عربي - وتشعر أن ما تحتاجه في ساعتك هذه، ليس فهم الموت، إنما وصف حالتك التي عجزت عن التعبير عنها. جبران خليل جبران ينجدك في مصيبتك، ويعزيك بتفهم: «إن الإنسان لا يموت دفعة واحدة، إنما يموت بطريقة الأجزاء. كلما رحل صديق مات جزء، وكلما غادرنا حبيب مات جزء، وكلما قُتل حلم من أحلامنا مات جزء، فيأتي الموت الأكبر ليجد كل الأجزاء ميتة فيحملها ويرحل». فهذا هو الوصف الدقيق لحقيقة مشاعرك؛ عندما اكتمل بفقد الراحلة ”وردة“ جميع حالات الموات التي عددها جبران؛ فقد كانت الزوجة الوفية، والصديقة الحبيبة.. والحلم.