الرجل الذي ارتد إليه بصره...!
تروي الكاتبة الكندية ”ميريام تيفز“، أن أعمى حين بلغ الأربعين من عمره ارتد إليه بصره لسبب غير معروف، ودون علة ظاهرة، ولكنه لم يستطع إدراك ما بدأ يراه! أو أنه رأى ما لم يتوقع رؤيته، فما أن عبر الذهول والدهشة حتى رأى وجهه أقل جمالا مما كان يظن، ورأى ملابسه متواضعة جدا، وغير متناسقة في ألوانها، ثم عرف لاحقا لوصوله لمنزله أن كل ملابسه كانت، بقية لشيء ما، لإنسان أو مستودع أو وفاة، كان من حوله يعتقد أن الأعمى لن يرى الحالة التي سيكون عليها بعد استعمالها!
رأى أن أثاث المنزل كان قطع لا تنتسب لبعضها، وألوانه منطفئة من زمن قصي بعيد لا يُدرك أوله،، وأنه كان أقل نظافة؛ مما كان يعتقد بكثير، وأن المطبخ كانت تشاركه فيه حشرات كثيرة!
وإن من كان يفترض أنهم ”يعتنون به“ كانت لهم دائما ما يشغلهم عنه! وإنه كان يمثل إعاقة مزمنة، يُعتنى بها من فائض الوقت والمشاعر والرحمة وفائض كل شيء آخر!
إن صدمة الرؤية جعلته لا يتقبل حقيقة ما كان عليه لأربعين سنة، وأنه كان لا يستطيع أن يراها أو ينفذ إلى حقيقتها بأكثر من ما يؤمله فيمن حوله! وهذا ما أفضى لعزلته ووحشة نفسه، وتمام خيبة الرجاء في الناس، فمات سريعا، وكأن الله أراد له أن يبصر نفسه وحاله، والناس من حوله قبل أن يعود إليه!
الناصية تفرق المصار وتلاقيها، تباعدها وتٌدنيها، وإننا نعيش في حجاب الظاهر، ونموت فيه دائما، وأننا جميعا كهذا ”الأعمى“ الذي عاش أربعين سنة حتى أبصر نفسه قبل أن يموت للمرة الأولى، وحين أبصرها ”أنكرها“ وبعد فوات الأوان تمنى لو كانت لغيره، ولم تكن له!
نفوسنا في حياتنا المكثفة الحضور في حياة الناس، وطلب الظهور والحضور، ونيل الرضا جعلتنا على الدوام ”مشغولون“ بكل شيء إلا أنفسنا، وجعلتنا نرى كل شيء إلا أنفسنا، وجعلتنا نعيش من أجل غيرنا أكثر مما نعيش حياتنا التي قدرها الله لنا، وإننا كهذا الأعمى، في لحظة زوال العمى عن تفاهة اهتماماتنا وشواغلنا وحيوات الناس من حولنا، سنصرخ في لحظة يأس عظيمة ونقول ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: آية 24].
حياتنا المعاصرة تقتات على شتات نفوسنا وعقولنا بالمقدار الذي لا نُدرك أننا معاقبون بأسوأ أنواع العقاب، وأشد أنواع العذاب عقوبة نسيان النفس ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: آية 19].
هي العقوبة التي تجعلنا مشغولين على الدوام بكل شيء لا قيمة له، نرى كل شيء، ونعجز عن رؤية أنفسنا، نقترب من كل شيء ونستوحش من أنفسنا، وحين أخبرنا الله عن عقوبة نسيان النفس! لم نُدرك أنها عقوبة، مغلقة مظلمة، مفرطة القسوة تبعد صاحبها عن كل أسباب الرحمة، وتجرد القلب من بصيرته، وتسلبه يقظته ونوره، حتى ينسى وجوده!
كلنا بعد زوال الغفلة عنا سنرى ما لم نتمنى رؤيته في أنفسنا! وأننا لن نتقبل حقيقتنا، وما هي عليه من الظلمة والجهل والغفلة.
كلنا بعد حضور الوعي، سنرى أننا كنا نستحق حياة أفضل، من تلك التي عشناها! وسندرك أن من لا يرى حقيقة نفسه يمت أعمى، ويحشر أعمى ولو كان بصيرا.
كلنا بعد حضور لحظة التمام سنرى أننا بعثرنا حياتنا كبقية بلا قيمة على كل شيء من أجل لا شيء!
سنتمنى لو سعينا مع من سعى، وسنتمنى لو لذنا مع من لاذ! ولو اقتربنا من قلوبنا مع من اقترب وذاق وتعلق.
سنتمنى لو كنا مبصرين لذواتنا وأنفسنا، في وقت مبكر، ربما كانت حياتنا أعمق، وأكثر صفاء، وأقل شتاتا!
وربما لن نقول لله تعالى حين نعود إليه بحسرة:
﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: آية 24].
وربما قيل لنا بفرح لا ينقضي ولا يزول أبدا
﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: آية 24].