آخر تحديث: 14 / 6 / 2025م - 3:15 ص

بذاءة لسان الكبار أمام الصغار

هاشم الصاخن *

لسانك حصانك؛ إن صنته صانك، وإن هنته هانك.

مثلٌ قديم؛ لكنه اليوم يُهمل في كثير من المواقف، حتَّى بات اللسان مصدرًا للأذى أكثر من كونه أداة للتَّواصل.

فمتى يكون اللسان محفوظًا بالكلمات اللائقة؟

ومتى ننتبه إلى أن من حولنا ليسوا جميعًا في سنٍّ تسمح بتصفية الكلام وفهم مقاصده؟

في المجالس، والشوارع، وحتَّى في مدرجات المباريات، نسمع من بعض الكبار ألفاظًا نابية، وتعليقات جارحة، وكلمات لا تليق أن تُقال أمام الكبار أنفسهم، فكيف إذا كان إلى جوارهم أطفال في عمر الحفظ والتَّقليد؟

الخطورة هنا لا تكمن في ”اللفظ العابر“؛ بل في أنَّ هذه الكلمات تُزرع في ذاكرة الطفل، ثمَّ تخرج لاحقًا في المدرسة، أو بين الأهل، أو أمام الغرباء، لتبدأ رحلة الاتِّهام: أين تربية الأسرة؟

والحقيقة إنَّ الخطأ لم يبدأ من البيت، وإنَّما من لسانٍ لم يضبطه صاحبه، وظنَّ أنَّ الأطفال لا يسمعون، أو لا يفهمون، أو لا يُؤثَّر فهم.

في المجالس العائلية، يجلس الأب مع أولاده يظن أنَّه في بيئة آمنة، وأنَّ اللقاء العائلي سيحمل في طيّاته الألفة والأنس؛ ولكن ما إن ينضمّ أحد الأقارب، حتَّى يُفاجأ الحضور بكلماتٍ ثقيلة تنزل على الأسماع كالحصى: ألفاظٌ سوقية، وتعبيرات جارحة، وسخرية ملبّسة بضحكٍ أجوف، يُطلقها المتحدِّث ظنًّا منه أنَّ ما يقوله طبيعي، وربما يردده في بيته أمام أبنائه من دون حرج، ولا يعي هذا القريب أنَّه قد يكون جالسًا بين أطفال تربّت ألسنتهم على الاحترام، وأُنشئت في بيوت تضبط الكلمة كما تُضبط الأفعال، ولا تُقبل فيها النبرة الجارحة، ولا الكلمة القبيحة، ولو كانت في سياق مزاح.

في لحظة واحدة، يُربك هذا القريب الأب الجالس، الذي يجد نفسه في موقف لا يُحسد عليه؛

فإمَّا أن يواجه المتحدِّث ويطلب منه ضبط لسانه، وإمَّا أن يصمت ويقضي الليل كلَّه بعد ذلك في محاولات شرح وتبرير وتوجيه لأولاده الذين التقطوا تلك الألفاظ، وبعضها قد يبقى عالقًا في أذهانهم طويلًا.

والمصيبة إنَّ مثل هذا الشخص لا يرى فيما قاله أي مشكلة، وقد يتساءل مستغربًا:

"لماذا تعظموها؟

إنَّها مجرَّد مزاح!"

وهنا يتجلَّى الفرق بين من تعوَّد الحديث في بيئة لا تضع للكلمة وزنًا، وبين من يعلم أنَّ الكلمة تربي، وأن اللسان قد يزرع في الطفل بذرة طيبة... أو شوكة. والأكبر من ذلك إنَّ بعض هذه المجالس - التي يُفترض أن تكون ميدانًا لتلاقح الخبرات وتبادل الاحترام - تتحوّل إلى ساحة لترويج الألفاظ الرديئة، وكأنَّ كلَّ واحد يتفنن في الخروج عن الذوق العام أكثر من الآخر، من دون أدنى اعتبار لوجود أطفال أو نساء أو حتَّى كبار في السن.

فهل أصبح الحديث المُنضبط عيبًا؟

وهل لا يُضحك الناس إلَّا ما هبط وابتذل؟

ومن الجوانب التي يغفل عنها كثير من الناس، أنَّ الطفل لا يتأثَّر فقط بالكلمة المنطوقة؛ بل بالمشهد أيضًا والسلوك والنظرة. وحين يتحدَّث الكبير عن النظر إلى المرأة الأجنبية بلا مبالاة، أو يبرر ذلك أمام طفل بريء، فإنَّه يُضعف في نفسه فطرة الحياء، ويجعل من السلوك الخاطئ شيئًا عاديًا، وقد يربطه برجولة زائفة أو ذكاء اجتماعي، بينما هو في الحقيقة تزييف للقيم، وشرخ في المفاهيم.

والأخطر من ذلك كله، حين يأخذ الأب أو أحد الأقرباء طفلاً صغيرًا إلى مجلس رجال، أو جلسة استراحة، ظانًّا أن الطفل ”ما راح يفهم“، أو أن المجلس لا يضره، ثم يُفاجَأ بأن من في الجلسة يتحدثون بحرية مفرطة، بألفاظ جنسية صريحة، أو تعليقات فاضحة، أو إشارات بالعين واليد لا تليق لا شرعًا ولا خلقًا، وكل ذلك يجري أمام طفل لا يعرف كيف يدافع عن سمعه ولا بصره، لكنه يحفظ، ويقلد، ويبني شخصيته على ما يراه ويسمعه.

وهنا نقولها بوضوح:

لا يصح أن يُترك الطفل في مجالس لا تُقدّر وجوده، ولا تتورع عن طرح ما يُفسده،

ولو لم يتأثر ظاهرًا فالأثر يتراكم في قلبه وذاكرته.

فهذا الطفل الذي يشاهد ويتلقى ويتأثر، سيكون غدًا أبًا وربًّا لأسرة، وقد يعيد ما رآه وسمعه على أنَّه ”شيء طبيعي“ ما دام الكبار فعلوه وقالوه ذات يوم أمامه.

ختامًا،

إنَّ اللسان أداة تربيَّة كما هو أداة تواصل،

وكل كلمة تقال أمام الأطفال هي غرس في تربيتهم، إمَّا أن يُثمر خُلقًا، أو ينبت انحرافًا.

علينا أن نراقب أحاديثنا، وننتبه لسلوكياتنا، ونتذكر أنَّ الطفل لا ينسى ما يسمعه، ولا يميِّز بين الجدِّ والمزاح.

فكن قدوة يُفتخر بها، لا سببًا في اتهام أسرةٍ بالتقصير في تربية ولدٍ علَّمته الحياة من أفواه المارة.

سيهات