رحلة القطط والمطبخية: فصولٌ لا تُذاع في نشرات الطقس
في زاوية غير مُسجّلة في جدول الفصول الأربعة، يتسلل الصيف إلى أرواحنا لا على أصابع الريح، بل على خطوات قطةٍ نعسانة تتقلب تحت ظل سيارة، وعلى همهمة ”مطبخية“ رابضة فوق سطح بيت لا تعرف من العالم إلا فصل الشتاء.
تلك المطبخية، قطعة أثاث موسمية بحجم ذاكرةٍ بدوية، لا تخرج من صمتها إلا حين يرفعها رافعةٌ كأنها تودّع المنفى، وتعود من غياهب السطوح إلى صَهوة البرّ، حيث الشاي يُغلى بالفحم، واللحظة تُشرب على مهل، والمساءات لا تُقاس بالدرجات بل بدرجة الدفء في الصدور.
وهنا، تبدأ ”رحلة الشتاء والصيف“ … ولكن بطريقتها الخاصة.
من قال إن الفصول تتبدل على أوراق التقويم فقط؟ أحيانًا، يبدأ الشتاء حين ينزل أبو سعيد المطبخية من سطحه، كأنما ينزل بها فصلًا كاملًا. وحين يعيدها إلى السطح، لا يرحل الشتاء وحده، بل ترحل معه جلساته، نكاته، أهازيجه، وأقداحه.
فصل الشتاء ليس طقسًا، بل طقوس. والصيف؟ هو تلك ”التحولات“ الصامتة التي تحدث حولنا ولا ننتبه لها، إلا حين نرى القطة تحت السيارة.
هل لاحظت أن القطط لا تستظل بالظل إلا حين يبدأ الإنسان بالشكوى من الحر؟ كأنها جهاز استشعار اجتماعي يخبرك أن فصل الشكوى الجماعية قد بدأ. والصيف لا يكتمل إلا بشكوى جماعية، مثل عرض مسرحي دون مخرج، الكل فيه ممثل ومُتذمر في آن واحد.
وفي خضمّ هذا التحوّل، تبرز أسئلة خفية:
هل نحن مستعدون نفسيًا لفصلٍ تنكمش فيه الأرواح وتتعرّى الأجساد؟
هل نحن مهيّأون لمغادرة دفء الجلسات إلى حرّ الأرصفة؟
وهل يُقاس الصيف بحرارته أم بكمية الذكريات التي نتركها وراءنا مع كل مطبخية تُعاد إلى السطح؟
الشتاء كان طقسًا للحميمية، للعزف على أوتار ”إبريق الشاي“، للمسامرة تحت ضوء القمر، وللخلاف حول من يُشعل الفحم. أما الصيف، فهو الفصل الذي نصبح فيه ”ناجين“، نبحث عن بركة ظلّ أو رشفة ماء باردة كأنها غنيمة من غنائم الحياة.
لكن ما لا يُقال كثيرًا هو أن هذه الطقوس، مهما بدت هامشية، تصوغ ببطءٍ ملامح الروح.
في الشتاء، الإنسان شاعر حتى وإن أنكر. يتفلسف في ليلة مطر، يتأمل البخار الخارج من فمه، يتخيّل. أما في الصيف، فهو واقعي حتى لو حاول التظاهر بالبلادة. يُصارع المكيف، ويقيس اليوم بدرجة الحرارة، ويشتاق لأشياء لا اسم لها، فقط تعرفها حين تعود الشتوية من المنفى.
والأجمل أن هذه الطقوس موسمية… لا لأنها تتكرر، بل لأنها كل مرة تأتي مختلفة. القطة نفسها، لكن ظلّ السيارة تغيّر. والمطبخية هي هي، لكن الشاي في أول جلسة بعد نزولها له طعم مختلف، كأنها قد امتصّت من سطح البيت طيفًا من الذكريات وأعادته في أول رشفة.
وهنا، لا بد من وقفة جمالية: هل الطقوس هي التي تمنح الفصول قيمتها، أم أن الإنسان هو من يصنع الفصول في داخله؟
من قال إن الفصول تأتي بترتيب؟ أحيانًا، يحمل أحدهم شتاءه في قلبه وسط حرّ أغسطس، لأن المطبخية لم تُنزل بعد. وأحيانًا، تُخزن القطة في ظلّ الذاكرة أكثر مما تُخزن تحت السيارة، لأنها تذكرك بأن الحياة لا تُقاس بالزمن، بل بعلاماته الصغيرة التي تمرّ ولا تُقال.
في النهاية، ربما كان أبو سعيد هو الفيلسوف الحقيقي في هذا الفصل. لا لأنه أنزل المطبخية، بل لأنه يؤمن أن لكل شيء وقته، ولكل وقت مطبخيته.
وبين رافعة الشتاء وسطح الصيف، نعيش… نراقب، نبتسم، نضحك، ونفهم أن الحياة تُقاس بعدد المرات التي ضحكنا فيها لأن قطة قررت أن تغيّر مكان ظلّها، أو لأننا شاهدنا أبا سعيد يحيي طقسًا من طقوس البرّ كأنه يعيد فتح بوابة الجنة الشتوية، بشايها، وضحكها، وسمرها الطويل.
فهل نحن على استعداد لطقوسنا المقبلة؟ وهل حملنا من الشتاء ما يكفي لنواجه به صيف الروح؟
السؤال مفتوح…
مثل باب المطبخية، حين يُفتح أول مرّة.
حين يبدأ موسمٌ جديد… لا يُذاع في نشرات الطقس