سماحة الشيخ صادق المقيلي «أبو طاهر».. حين تبكي المنابر وتنحني الأرواح
حين يترجّل الكبار، تهتز الأرواح كما تهتز الجبال، وتضيق الكلمات عن حمل الوفاء لرجالٍ لم يكونوا عابرين في الزمن، بل كانوا مناراته ومآذنه وصوت ضميره. ومن أولئك الأفذاذ، يبرز اسم سماحة الشيخ صادق ابن الملا حسن المقيلي «أبو طاهر»، الذي لم يكن مجرد عالم أو خطيب، بل كان ضوءًا يسير على الأرض، نقيّ السريرة، طيّب المبدأ، خفيض الصوت، عميق الأثر، وضميرًا نابضًا بالمحبة والصدق.
في القديح، وُلد الشيخ، ومنها ارتحل إلى مدارج العلم والإيمان، ثم هاجر صغيرًا إلى النجف الأشرف، حاملاً في قلبه حبّ الحسين، وفي عينيه نور التطلع إلى مدارج العلماء. هناك، في جوار القباب الطاهرة، تلقّى علومه على يد خيرة رجال الدين، وتشرّب التقوى من منابعها الأصيلة. عاد بعدها إلى بلده لا ليطلب مقامًا، بل ليحمل على عاتقه همّ الدعوة والإصلاح وخدمة الناس، فكان الإمام، والمصلح، والمربّي، والخطيب، والمرشد.
كان أبو طاهر رجلًا خُلق من طين الأرض وحنان السماء. عرفه الناس بسيطًا، ترابيًّا، لا يُفرّق بين غني وفقير، ولا يتخلف عن مأتم أو فرح، ولا يتأخر عن سؤال مريض أو احتضان يتيم. يواسي الصغير قبل أن يبكي، ويعزّي الكبير قبل أن يُفجَع، ويجعل من ذاته جسرًا بين الطفولة والكهولة، لأنه كان أبًا للجميع، من دون أن يقولها.
يمارس سماحته دوره الإرشادي بكل لطفٍ وحب، بصوتٍ خفيضٍ لا يعلو، ولكنّه يرفَع القلوب، ويهزّ الضمائر، ويزرع السكينة. لم تكن محاضراته تقليدية، بل كانت نبضًا في جسد المجتمع، بلسمًا للأرواح، وصوتًا للضمير، وملاذًا في زمن التشتت، حيث ظلّ صوته الحسيني يربّي الأذن على اللطم والعبرة، والخشوع والإيمان.
لم يكن فقط إمام مسجد السدرة بالقُديح، بل كان إمام القلوب والرحمة. كان بيته مأوى، وكلمته سراجًا، وتواجده طمأنينة، سواء في الزقاق، أو المجلس، أو المزرعة، أو الديوانية. كان عالمًا له باع طويل، ووجهًا لا يُردّ، وصوتًا لا يعرف غير التسامح، ورمزًا للتواضع في زمن تتكاثر فيه الألقاب.
حتى حين ألمّ به المرض، لم يغادر الناس، بل ظلّ يُرسل التهاني والتعازي بصوته رغم الوجع، وكأنّه يخشى أن يتأخر عن أفراحهم وأحزانهم. ظلّ همه الدائم أن يُسأل عن ”ثبوت الهلال“، لا ليُفطر، بل ليُطمئن السائل، ويُفرح الطفل، ويبدأ العيد في قلب من ينتظره.
وقد ظل حتى آخر أيامه صادقًا لاسمه، وفيًا لطريق الطهر، ثابتًا على المبدأ، حتى أكرمه الله بالرحيل على نقاءٍ ندر في هذا الزمن. لم تكن وفاته مجرد حدث، بل زلزلة في الوجدان، وفقدان لزمنٍ كان فيه للعلماء مكانهم، وللمحبة وزنها، وللمنبر صوته الصادق.
رحل الشيخ، وبقي الأثر.
رحل الجسد، وبقيت الدموع منقوشة في كل زقاق مشى فيه، وكل منبر جلس عليه، وكل دعاء ختم به المجالس. سيفتقده المنبر، المسجد، الحسينية، البيت، الناس، النخل، الفقراء، الأيتام، والمحتاجون.
يا أبا طاهر… نم قرير العين.
لقد أديت الرسالة، وبلّغت الأمانة، وبكيناك فخرًا لا حزنًا، وشوقًا لا جزعًا.
بين يدي الحسين سيكون اللقاء، وبجوار من كنت تبكي لأجلهم كل عاشوراء،
وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.