الشاعر حين ينزل الشعر منزلة الوجود
يقول في واحدة من قصائده العديدة عن الشعر:»من أية غابة أصوات يتدفق نبع الشعر، ومن أين الكلمات المغموسة في الآلام المنقوعة في الألوان تجيء».
لا أعرف شاعرا «سعوديا» ينزل الشعر منزلة الوجود كما هو الشاعر عبدالوهاب أبو زيد، يهجس به مثلما يهجس مجنون ليلى بحبيبته، ولا يسائل معناه بقدر ما يحاول الكشف عن مكامن حياته في الوجود وكأن الكشف سرٌّ مخبوء تجهد قصيدة عبدالوهاب في البحث عن تجلياته بين عناصر الطبيعة والكون والعالم. وهو فيما يحاول تتوهج قصيدته، لأنها تظل على تماس بالانفعالات الذاتية التي تجعل هذا التوهج ينبض بالحياة.
لذلك، ثمة علاقة وثيقة تجمع سؤال الشعر وما تفرضه دلالاته التي تجيء تحت كلمات كالقصيدة والمعاني والحروف، بجانب أسئلة أخرى كالموت والليل والبحر، مع تجربة عبدالوهاب الشعرية. هذه العلاقة ترتبط بشخصية الشاعر عبدالوهاب نفسه من العمق، فهو يقيم علاقته بالشعر انطلاقا من كون الشعر مقدسا بالدرجة الأولى، وإذا ما انكشف لنا برقه الخاطف، فإنه سرعان ما يومض ثم يختفي. هذا التجلي والاختفاء هي إحدى السمات الكبرى التي ترتبط بشخصية الشاعر عبدالوهاب، والتي انعكست تماما على نظرته للشعر وبالتالي قصيدته.
وكونه بالنسبة لي صديق الروح والكلمة والحياة، فأني أدرك تماما أن هدوء شخصيته واستغراق هذا الهدوء وامتداده في كامل تفاصيل حياته الاجتماعية والأدبية هو الهدوء الذي يكمن خلفه صخب الإبداع وتألقه، وكأنه يقول لنا: على الشاعر أن يكون متيقظا بجميع حواسه إذا ما عبر الشعر سماءه كومضة، واليقظة هنا تستدعي مخزونا من الطاقة لا توفرها سوى فاعلية الهدوء الذي يجلب التأمل والتساؤل للشاعر. يكتب عبدالوهاب وفق هذه الرؤية يبتعد ليقترب أكثر، يختفي «بالمعنى المجازي» ليتجلى أكثر.
يقول في قصيدة «عطر الشعر»: كما يخرج العطرُ من حضن وردةْ.. خرجتُ لأملي على الشعر وِردهْ.. وأكتبه مثلما أشتهيه إلى أن يقال قد اجتاز حدّه.. وحيدين ملء اتساع الوجود، فلا شيء قبلي ولا شيء بعدهْ.
ولأن سؤال الشعر في أفقه المتعالي يحتل مساحة كبيرة في منجزه الشعري فإنه يفتح بينه وبين قصيدته حوارات متعددة الطبقات، تشتبك فيها الذات مع مخيلة القصيدة لتقول ما ينبغي أن يقوله الشعر في أفقه المتعالي، وهناك قصائد تنحو هذا الجانب من الاشتباك. يقول في إحدى قصائده «سأدخل للقصيدة دون باب، وأحملها كعطر في ثيابي» إلى أن يقول «ستهطل من سماء الغيب ودقا، يطهرني ويوغل في إهابي.. سأنسى متى حضرت وباتت، بأوراقي وأسرف في غيابي.. سأصحبها إلى نبع قصي، بصحرائي وأسخر من سرابي.. سأدخل غارها وألوذ فيها، بصمت لا يعكره اصطخابي».
أن قصيدة عبدالوهاب من خلال تجربته لا تقف عند حدود سؤال الشعر فقط، بل هناك استبطان ذاتي وعوالم داخلية يصنعها بمخيلته المتدفقة نقاء يعكس نقاء أسلوبه في الكتابة، يقترب بها من حياته الخاصة ونظرته في الأحداث والشخوص والأمكنة وكأن ما يحفز مخيلته على صناعة هذه العوالم قلقه الذي يستمده من نزعته الإنسانية الكامنة في شخصيته من جهة، ومن رؤيته للشعر في أفقه المتعالي من جهة أخرى. وهذا ما يدعوني للقول أن الصوت الشعري القلق في تجربة عبدالوهاب هو صوت مشغول بنفسه عن صوت الجماعة، وهو بخلاف غالبية شعراء الأحساء، على اعتبار الأحساء المولد والبيئة، يترك باب قصيدته مواربا، حتى لو أراد أن يشرعه كله لا تسمع له صريرا بتاتا.