آخر تحديث: 10 / 6 / 2025م - 2:47 ص

قراءة في قصيدة ”من مخاض السماء“ للشاعر الأستاذ محمد جعفر الحيراني

عماد آل عبيدان

هنا لا قصيدة تُقرأ، بل مناجاة تُبكى، وسجدة تُتلى، ووحي يُغمس في الحنين.

”من مخاض السماء“ عنوانٌ لا يختبئ خلف البلاغة، بل يتقدم بها؛ يشقُّ سُحب اللغة ليعلن أن ما سيأتي ليس شعراً فحسب، بل ولادة معجزة، فيها من الطهر ما يبرر نزولها من أعلى، ومن الألم ما يجعلها ”مخاضًا“ لا يُحتمل إلا بحبٍّ مبرّح.

”مِنْ مُخَاضِ السَّمَاءِ، مِنْ رَحِمِ الغَيْبِ، تَجَلَّتْ وِلَادَةٌ عَنْ سِجَافِ“

في هذا العنوان، تتقاطع أنوثة السماء مع رجولة الإيمان، وتغدو السماءُ رحمًا، والمخاضُ صوتًا صاعدًا من دم الولادة العلوية: ميلاد عليٍّ .

نحن لسنا أمام ”قصيدة عن الإمام“، بل أمام حدث كونيّ شعريّ، تتجلى فيه الفكرة في شكل دهشة لغوية تتعدى الإعجاب إلى الانخطاف الوجداني.

لا يتكئ النص على ”صنعة“ شعرية تقليدية، بل ينسج شعريته من نسغ الولاء ومن ”دهشة المعتقد“.

يعتمد الحيراني على توازن داخلي، لا في الوزن فقط، بل في صوت الروح، الذي يعلو ويخفت بين المقاطع كأنها نبضاتُ عاشق يوشك أن يُغشى عليه من شدّة الحضور.

”كُلَّمَا صِحْتُ: «يَا عَلِيُّ» تَجَلَّى الطُّهْرُ، مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الآلَافِ“

من يقرأ القصيدة يشعر أن كل بيت فيها يبدأ من عُمق السجدة، لا من سطح البيت الشعري. فالحرف يُبكي مفردات اللغة، ويعيد ترتيب التفعيلة وفق حرارة المشهد لا حسب القواعد.

الحيراني يستخدم لغة طاهرة، متطهرة، ومطهِّرة.

ليست اللغة هنا أداة نقلٍ، بل هي نفسها رسالةُ حبٍّ علويّ.

لا مكان في هذا النص للزخرفة المجانية، فكل استعارة تُغمس في دمع الحنين، وكل تشبيهٍ يُضاء بنور العقيدة.

تأتي المفردات شديدة التحديد، منتقاة بعناية وجدانية، حتى ليكاد القارئ يسمع خفقان القلب خلف كل عبارة.

”نَزَلُوْا مِثْلَ دَمْعَةٍ مِنْ مُحِبٍّ، حِيْنَ يَلْقَى حَبِيْبَهُ، وَيُوَافِي“

إنه بكاءٌ لغويّ، لا مجازي، يقطر من جفنة الشعر ليغسل أوجاع العقيدة بلغةٍ لا تتكلف، بل تتكشّف.

الحيراني لا يكتب عن الإمام علي بوصفه شخصية تاريخية، ولا حتى إمامًا معصومًا فحسب، بل كنقطة مركزية في التكوين الوجداني للوجود.

”مَا عَلِيٌّ إِلَّا دَمِيْ، وَالشَّرَايِيْنُ، وَقَلْبِيْ، وَمُهْجَتِيْ، وَشِغَافِيْ“

يصبح الإمام هنا نبضًا كونيًا يُشعرنا بأننا بلا حبّه نكون نقصًا في الوجود، وخسارةً في التكوين.

كل مقطع في القصيدة يضيف لبنة في معمار عرفاني عاطفي، يصعد بالقارئ من الشعور إلى الشهود.

”رَفَعَ الوَحْيُ لِلسَّمَاوَاتِ كَفَّاً، لَمْ تَكُنْ غَيْرَ رَايَةٍ، وَائْتِلَافِ“

ما يميز القصيدة هو أن حبّ عليٍّ فيها ليس هياميًا ولا ساذجًا، بل حبٌّ عقائدي عميق، فلسفي النبرة، صوفيّ الجذور.

القصيدة تذكرنا بتجليات ”ابن الفارض“ حين أحب، لكنها تختص بالإمام علي، فالحب هنا ليس غاية بل وسيلة لفهم الذات والكون والخلود.

”كُلَّمَا صِحْتُ: «يَا عَلِيُّ» تَشَافَى، جُرْحُ جُرْحِيْ، وَزَالَ عَنِّيْ مَخَافِيْ“

لم تُكتب القصيدة في ”مزاج شعري“، بل في حالة ذوبان وجداني كامل.

نحس أنّ كل بيت فيها وُلِد من صلاة خاشعة، وكل استعارة من دعاء باكٍ في جوف الليل.

هي قصيدة تؤمن بوظيفة مزدوجة:

1. جمالية فنية باذخة في صورتها الشعرية ومخزونها البلاغي.

2. روحية وجدانية تخاطب قلب المؤمن، وتنقله من ”القراءة“ إلى ”التجلّي“.

”مَا عَلِيٌّ إِلَّا هُيَامُ هُيَامِيْ، وَانْجِذَابِيْ، وَسَكْرَتِيْ، وَانْخِطَافِيْ“

”وَتَسَامَتْ شَجَاعَةٌ، وَتَهَاوَى، عَرْشُ طَاغٍ، بِذِلَّةٍ، وَارتجافِ“

”من مخاض السماء“ هي سجدة مكتوبة بلغة الشعر.

هي نصٌّ يعلّمنا كيف يُحبُّ الإنسانُ العظيمَ بعظمة، وكيف تُكتب القصيدة لا على الورق، بل على جبهة الولاء.

فيها خُلاصة الشعر حين يُصبح دينًا، وخلاصة الدين حين يتجلى شعرًا.