آخر تحديث: 12 / 6 / 2025م - 11:10 ص

الحكاية الأولى

رائدة السبع * صحيفة اليوم

دائمًا ما يستوقفني مشهد الأطفال في ردهات الانتظار.

ثمة شيء مختلف وملفت في طريقة جلوسهم، كأنهم جاؤوا من عالم اللعب إلى عالم يجهلون قواعده. أتعمد ممازحتهم، لكي أُعيد تشكيل الصورة القاسية التي رسمها الكبار في أذهانهم عن الكادر الطبي — نحن الذين يُدج اسمنا أحيانًا كأداة ردع، حتى أصبح الأطفال يخافون اللون الأبيض.

أريد أن أكون الاستثناء... أن أترك أثرًا طيبًا في ذاكرتهم ولو بابتسامة.. في أحد الصباحات، رأيت طفلًا صغيرًا يتشبّث بثوب والدته في ردهة المشفى. انحنيت نحوه وسألته بلطف: «ما اسمك؟» نظر إليّ بخجل، ثم اختبأ في حضنها. ابتسمت له وأنا أغادر، لكن والدته استوقفتني وقالت وهي تضحك:

وأنتِ؟ أما تخبرين ابني باسمك؟ وقفتُ برهة.

وقبل أن أُجيبهما بالاسم الذي تحمله بطاقة هويتي، وجدتني أُجيب في داخلي، بصوت لا يسمعه أحد:

أنا البهجة، نعم. لكنني لم أُخلق من فراغ، ولم أنشأ على يد الحياة وحدها،

بل جُبلتُ من طمأنينة يدٍ كانت تُمسّد رأسي، ومن صمت رجلٍ لا يقول ”أحبك“، لكنه يجعل العالم أقلّ قسوة.

والديّ العظيمين، لا أحد يعرف أنكما أول من اخترع معنى ”الاحتواء“، قبل أن تتّسع اللغة، وقبل أن تظهر كتب التربية،

كنتما تكتشفان الفرح بأبسط الأدوات: قطعة حلوى، أو ورقة نقدية تُخبأ في الجيب، فاكهة لذيذة، أو رحلة بسيطة في الأعياد.

وأنا طفلة.. كانت أمي تسند عالمي بصوتها واهتمامها، وكان أبي يُحدثني بصمته ويُعلّمني الصبر بقوته، يمنحني يقينًا لم أجد له اسمًا في كل قواميس المعاجم.

في اليوم العالمي للوالدين، لا أكتب تكريمًا، بل أُعيد كتابة الحقيقة.

فالذين نسبوا الفرح للنجاحات، غفلوا عن أولئك الذين صنعوا المعنى من اللاشيء.

الذين قالوا إن البهجة تُشترى، لم يعرفوا أن أمي كانت تهدينا إياها على شكل طبق، وأن أبي كان يمنحني اتزان الدنيا بيده على كتفي.

أيها الأبوان:

أنتما النور، واللحن الذي عزفنا عليه كل حكاياتنا الصغيرة. من صوتكما ودفئكما تشكّلت أولى ملامح الإنسان فينا.

أنتما أول وطنٍ، وأصدق مرآة، وأطهر دعاء.

أخيرًا الأمنية الأبدية: ليت الآباء لا يهرمون، لا يحزنون، ولا يرحلون أبدًا. ليتهم يبقون كما هم: ظل الحياة، وسكينة القلب، ومآذن السلام.

فبغيابهم، تنكسر الطمأنينة، ولا تعود الحياة كما كانت.