بين مخيمات عرفات
خوفٌ ورجاء، ودعاءٌ يُتلى من أفواه العباد، غطّت أحرفه وكلماته سماء ليلة عرفة، واستقرّت بين المخيمات، تنتظر صبيحة يومه وإشراق شمسه الموعودة.
من هي عرفات؟ ولماذا يجول الناس بين المخيمات المنصوبة فيها، يبحثون عن خلوة بينهم وبين ربهم، ليعترفوا؟ فقد يريدون أن يعترفوا بأنهم جاءوا إلى هنا راجين، باحثين، متأملين، أن يخترق الأمل أحد أسقف تلك الخيمات، ليعود بالبشارة، وينثرها دُررًا على رؤوس كل من كان هناك.
عرفات: جبل أو سهل بين سلسلة جبال، يبعد عن مكة بضع كيلومترات، تزحف إليه الناس في اليوم التاسع من ذي الحجة، ملبين نداء الله، بأن يكونوا خلفاء في الأرض، وزينة العهد الذي خلقهم الله لأجله، ورثة العلم، والحلم، والرحمة. مرددين كلمات الوفاء:
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
عرفات، كان نصيبها أن تُدعى هكذا، فقد قال عنها الجليل سبحانه:
﴿فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 198]
لذا، كان هذا اسمها.
وقيل: لأنها أرض يتعارف فيها الناس، حين يأتون من كل فج عميق.
وقيل: لأنها الأرض التي التقى فيها آدم بحواء بعد الهبوط من الجنة.
وقيل: لأن جبريل علّم إبراهيم
مناسك الحج فيها، وكان يقول له: ”أعرفت؟“ فيقول: ”عرفت“.
وقيل: لأن الحاج يقف فيها ويعترف بذنبه إلى الله، ويتطهر منه بهذا الاعتراف، لذا هي عرفات.
منطقة محظورة، لا يدخلها إلا المسلمون، ولا يستطيع أحد أن يشتريها.
أرض قاحلة، غير قابلة لأن تُباع أو يُخطط فيها أو تُبنى عليها بنايات لغرض خاص؛ فهي أرض الجميع، يمتلك ”صكها“ الملايين، قابلة للعطاء، والوقف، والهبة.
أرض مختلفة عن كل الأراضي في عالمنا.
بين خيامها، التي تُنصب في ليلة ويوم التاسع من ذي الحجة، ممرات ضيقة تحكي قصصًا كثيرة:
دموع غزيرة، آلام وأفراح، قسوة وارتياح، جحود واعتراف، خيبات أمل وانفراج، سعي وركود، صدق وكذب…
ودويٌّ يتعالى من مغرب الليل، وحتى مغرب الليل الذي يليه، إلى أن تغادر الأقدام أرضها، تاركةً التوقعات بختام يليق بعفو الله، ورحمته، وفضله، وكرمه على الناس، لا بشأنٍ لهم فيها أبدًا.
وقد يكون بين المخيمات، أحيانًا، صمتٌ بليغ… أقوى من عروج كل تلك الكلمات والأدعية.