من الذاكرة رحلة العيد..
في صباحٍ تزيّنت فيه الأفق بأصداء التكبيرات، وتراقصت الأرواح على أنغام ”الله أكبر، الله أكبر“، اجتمع خمسة من الأصدقاء: حسن، محمد، صادق، ميثم، وحسين، وقد عزموا على أن يكون هذا العيد مختلفًا. لا زيارات تقليدية، ولا ولائم متكررة، بل يوم من البهجة الخالصة في أحضان الطبيعة.
اختاروا متنزّه ”الدُفِي“ وجهةً لهم، حيث تمتد المساحات الخضراء كالبساط، وتتناثر الأشجار كشهود على لحظات الفرح، وتهمس الرياح بنسائمها العليلة لكل من أتى باحثًا عن الصفاء.
قال ميثم وهو يتفقد هاتفه بحماس: ”أبلغت جميع المشاركين، وسينضم إلينا نحو خمسة وعشرين شابًا. أعددت قائمة بأسمائهم، وكل من سدد رسوم الرحلة وضعت بجانبه إشارة (صح).“
ضحك صادق وقال: ”يبدو أنك تصلح لإدارة شركة سياحية، يا ميثم!“
انطلقت القافلة المليئة بالحماس، وأصوات الضحك تعبق في الجو.
قال حسن وهو يقود السيارة: ”أخيرًا، سنقضي عيدًا مختلفًا! لحم مشوي، شاي على الفحم، ومباراة كرة قدم بين الأشجار.“
قال محمد ضاحكًا: ”لكن رجاءً، لا تنسوا إحضار السجاد... لا أرغب في الجلوس على التراب!“
رد حسين مطمئنًا: ”لا تقلق، كل شيء منظم تمامًا.“
لكن التنظيم، كما تبين لاحقًا، لم يكن كما ظنّوا.
حين وصلوا إلى المتنزّه، وكان المكان غاية في الجمال، تتناثر فيه الفقاعات التي يلهو بها الأطفال، وتغني الطيور على أغصانها، بدأت أولى المفاجآت.
قال صادق وهو يبحث في صندوق السيارة: ”أين السجاد؟ لا أراه!“
قال حسن بدهشة: ”ظننت أنك أحضرته!“
انفجر محمد ضاحكًا: ”سنجلس على الأرض إذًا، لنكن على طبيعتنا.“
حاولوا تجاوز الموقف، فقال حسين: ”لا بأس، المهم أن نبدأ بإعداد الطعام. أين أواني الطبخ؟“
أخذ ميثم يقلب الحقيبة الرئيسية، ثم رفع نظره وقال: ”لا توجد أوانٍ، ولا ملاعق، ولا حتى سكين!“
ساد الصمت للحظة. قال محمد وهو يضع يده على جبينه: ”أحضرت اللحم فقط، وكنت أظن أن البقية أحضروا الأدوات.“
قال حسين: ”أما أنا فأحضرت الفحم، ولا علاقة لي بالطبخ.“
قال صادق مستسلمًا: ”حسنًا، نُشعل نارًا ونبتكر طريقة للطهو. أين الكبريت؟“
نظر ميثم إليهم قائلاً: ”لقد نسيت إحضاره!“
عمّ السكون، ثم انفجروا ضاحكين، وكأن ما حدث ليس سوى مشهد من مسرحية هزلية.
قال حسن وهو يضحك: ”رحلة العيد تحوّلت إلى تدريبٍ على البقاء!“
قرر بعضهم الذهاب إلى متجر قريب لشراء ما نُسي. وفي هذه الأثناء، كان بقية الشباب قد بدأوا في إشعال الألعاب النارية.
ولكن، كما لو أن النحس يلاحقهم، طارت إحدى الألعاب النارية لتسقط في فناء الجار المجاور، وتبعها صوت انفجار خفيف أيقظ غضبًا كان نائمًا.
خرج رجل في منتصف العمر من خلف الأشجار، وجهه ممتقع، وصوته عالٍ: ”من هذا الذي ألقى النار على بيتي؟!“
كان اسمه العمّ أبو عبدالكريم، رجل ستيني، وجهه يحمل ملامح الهيبة، وصوته يشبه نداء قادم من زمن النظام والانضباط.
ساد الصمت، وتجمّد الجميع في أماكنهم، حتى صرخ أحد الشباب مشيرًا إلى الكرة: ”هيا نلعب كرة القدم!“
وبالفعل، بدأ اللعب وكأن شيئًا لم يحدث... حتى طارت الكرة مرة أخرى إلى فناء العمّ أبي عبدالكريم.
خرج الرجل مجددًا، وقد علا صوته هذه المرة أكثر: ”أليس لديكم أهل يربّونكم؟!“
تقدّم حسين معتذرًا، وقال بابتسامة هادئة: ”عذرًا يا عمّنا، لم يكن القصد إيذاء أحد. سننبه الشباب إلى ضرورة الالتزام.“
تنهد الرجل وقال: ”العيد للفرح نعم، لكن دون إزعاج الآخرين.“
ثم أذّن لصلاة الظهر، فتوجه الجميع للوضوء، وبعد قليل اصطفوا صفًا واحدًا، يؤمهم أحد الشباب في صلاةٍ خاشعة، ملأت الأرجاء بالسكينة.
وقف أبو عبدالكريم في مكانه، يراقب المشهد مذهولًا. كيف لهؤلاء، الذين كانوا قبل ساعة يثيرون الفوضى، أن يركنوا فجأة إلى هذا الخشوع؟
وبعد الصلاة، قال محمد: ”حان وقت المسابقة الثقافية، وسيتولى أبو علي إعداد وجبة الغداء.“
قاطعه صادق مقترحًا: ”فلنؤجل المسابقة إلى المساء، ونبدأ الآن بمباراة كرة قدم جديدة.“
وافق الجميع، وارتفعت الأصوات من جديد.
نظر العم أبو عبدالكريم إليهم من بعيد، حائرًا في هذا التناقض. صلاة جماعة، ثم فوضى، ثم تنظيم... شيءٌ غريب!
قرر مغادرة المكان، لكنه حين ركب سيارته وحاول تشغيلها، لم تستجب. كرر المحاولة مرارًا دون جدوى.
لاحظ حسن الأمر، فتقدّم إليه وسأله: ”هل تحتاج إلى مساعدة، يا عمّ أبو عبدالكريم؟“
رد متأففًا: ”نعم، يبدو أن السيارة تآمرت معكم عليّ! أريد أن أغادر لأبتعد عن فوضاكم.“
ابتسم حسن وقال: ”لا تقلق، شبابنا يحبون المساعدة.“
نادوا على أبو علي، فقام بتفقد السيارة، وبعد دقائق من المحاولات نجح في تشغيلها.
في تلك الأثناء، جاء ميثم مسرعًا وقال: ”أبو علي... ضاع الكبريت مرة أخرى!“
ضحك الجميع، ثم التفت حسن إلى العم أبو عبدالكريم وقال ممازحًا: ”هل لديك علبة كبريت، يا عمّنا؟“
ضحك الرجل من قلبه وقال: ”نعم، وعندي قهوة أيضًا... لكن بشرط: دعوني أشارككم هذه الفوضى الجميلة.“
وهكذا، تحول الجار الغاضب إلى صديقٍ جديد، وتحولت فوضى العيد إلى ذكرى دافئة، لا تُنسى.