المشي.. فلسفيا وشعريا
قبل أن يصبح المشي رياضة تستهدف كل فئات المجتمع في العصر الحديث، وقبل أن يقترن بالصحة الجسدية والنفسية، كان نشاطا ذا أبعاد ثقافية، وله جذور تمتد في عالمي الفلسفة والأدب. فهو يحقق صورة أخرى غير ما اعتدنا عليها من التنقل من مكان إلى آخر لأجل المعيشة.
ارتبط المشي بالفلسفة في اليونان، فقد كان أرسطو يلقي دروسه ماشيا في الهواء الطلق، حتى عرف اتجاهه بمدرسة «المشائية» ولهذا الفعل دلالة على تكوّن الأفكار والتنقل بها، ويراد لها أن تكون حرة دون سقوف تحدها، فالخطوات باعثة على التأمل والصفاء الذهني.
ويرى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه أن: ”كلّ الأفكار العظيمة تولد أثناء المشي“، مؤكدًا على العلاقة العضوية بين الجسد المفكّر والحركة الحرة. فالمشي، بحسب هذا التصور، ليس مجرد تنقّل بين الأمكنة، بل سياحة فكرية، وانفتاح على أفق الوعي الذاتي والعالم الخارجي.
وفي مجال الشعر استمدّ الشاعر العربي أوزانه من واقع حياته اليومية، فتوافق نبض ممشاه مع نبض القصيدة، سواء من حركته أو حركة الحيوانات في بيئته، فبحر «الرمل» هو إيقاع الهرولة التي هي فوق المشي ودون الجري، وبحر «الرجز» هو حركة الناقة في اضطرابها، وبحر «المتدارك» الذي أضافه الأخفش إلى بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي يتوافق مع وقع حوافر الخيول، وهذا باب واسع في المحاكاة الصوتية يعتقد به المختصون أن اللغات في نشأتها الأولى مرتبطة بأصوات الطبيعة، ولأسماء البحور الشعرية: «الطويل والخفيف والسريع..» دلالة على تنويعات الحركة وتفاوتها.
ولأن أحوالنا في الحياة لا تنتظم على وتيرة واحدة، فلحركة الإنسان عدة درجات أوردها الثعالبي في كتابه فقه اللغة وسر العربية مبتدئا من الأبطأ إلى الأسرع: الدبيب، المشي، السعي، الإيفاض، الهرولة،، العدو، الشدّ. وما هذا إلا أنموذج للثراء اللفظي الذي تتميز به اللغة العربية.
تفنّن شعراء العرب القدماء في الحديث عن السير فهو جزء من حياتهم ووسيلة للوصول إلى غاياتهم، فالشنفرى معروف بالارتحال وسرعة العدو حتى قيل في الأمثال: أعدى من الشنفرى، وفي لاميته المشهورة نجد أن التحرك هو المعادل الموضوعي للحرية عنده:
لَعَمرُكَ ما في الأَرضِ ضيقٌ عَلى امرئ
سرى راغِباً أَو راهِباً وَهوَ يَعقِلُ
وقد يكون المشي انعكاسا للرزانة والهدوء كما صوّر الأعشى محبوبته التي ودّعها:
غرّاءُ فرعاءُ مصقولٌ عوارضها
تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحلُ
كأنَّ مشيتها من بيتِ جارتها
مرُّ السحابةِ لاريثٌ ولا عجلُ
وفي الشعر الحديث نجد المشي عند محمود درويش مثلا يرتبط بالهواجس الوجودية ورحلة البحث عن الذات وسؤال الهوية:
على قلبي مشيتُ، كأنَّ قلبي
طريقٌ، أو رصيفٌ، أو هواءُ
فقال القلبُ: أتعبَنِي التماهي
مع الأشياء، وانكسر الفضاءُ
وأَتعبني سؤالُكَ: أين نمضي؟
ولا أرضٌ هناك، ولا سماءُ
أخيرا، أن تحمل رجلك وتدفعها إلى الأمام، وتصنع إيقاعك الخاص في طريق الزمن، فهذا دليل على مقاومة كل المثبطات من حولك، خطواتنا هي تاريخنا، ونحن نقطع مسافاتنا ينبغي إماطة كل ما يفسد لحظتنا ويعكر مزاجنا، كلما تقدمنا في العمر تهاوت الأشياء وصغرت في عيوننا، ولم يبق لنا إلا المشي فهو الكنز المخبوء تحت أرجلنا، والطقس الذي نؤديه بالصمت، وهو قبل كل شيء أسلوب حياة.