آخر تحديث: 10 / 6 / 2025م - 2:47 ص

دندنة الحروف والنغم

عماد آل عبيدان

يعجُّ عالمنا الذي نعيشه بالأصوات، حيث يتداخل الخبز مع الحكايات، وتُصدح الأزقة بأحاديث الناس، فيه يكمن سرٌّ غامض في تردّد كلماتٍ تنساب كالماء، وتهزّ الروح كما تهزّ الأوتار آلة العود أو فلنقل الدندنة. هذا السر هو الموسيقى التي لا تسمعها الأذن وحدها، بل ينبض بها القلب، وتُشرق في النفس فتُحلّق إلى عوالم من الجمال والحياة.

هل فكرت يومًا أن صوت مطرقة عامل في سوق الصفّارين أو ”دقدقة على صفرية“ يمكن أن يولّد علمًا بأكمله؟ لا، لم تكن ضربات عشوائية، بل كان الخليل بن أحمد الفراهيدي، ذلك العبقري البصري، الذي رآها نغمات، وسمع بين طبقاتها إيقاع الحياة. من هنا بدأت الحكاية، حكاية علم العروض، الذي هو بمثابة نغمة الشعر وروحه الحقيقية، ذاك الوزن الذي يميز بين القصائد التي تحيا فينا، وتلك التي تمر مرور الكرام.

إن العروض ليس علمًا جامدًا ينشغل به النُقّاد وحدهم، بل هو نبض الشعر ذاته، حيث تتراقص الحروف كراقصي الباليه على مسرح الكلمات، وتهتز الأنفاس كأوتار العود في يد فنان بارع. فكما لا تعزف الموسيقى بلا إيقاع، لا يُكتب الشعر إلا على هذا الأساس الذي وهبه لنا الفراهيدي. وعندما نقرأ بيتًا شعريًا، لا نقرأ حروفًا فقط، بل نسمع موسيقى داخليّة، دندنة تهمس لنا بالحياة، تسرقنا إلى عالم لا نعرفه سوى نحن.

ولكن، كيف تُولد هذه الموسيقى الداخلية؟ وكيف يمكن لمن يريد أن يبدأ رحلة الشعر أن يتعلم هذه الرقصة الساحرة بين الحروف؟ لا يكفي أن تنسج الكلمات، بل لابد أن تسمعها، أن تُشعرها، أن تضع يدك على نبضها، فتكون أنت ذلك العازف الذي يحكي القصة بأوتاره. أن تستمع إلى وقع خطواتك، لأنك حينها لن تكتب شعراً فحسب، بل ستخلق لحنًا يُعيد لك الحياة ويُعيدك للحياة.

الاستماع ليس فقط بالأذن، بل بالروح. اسمع تنفسك، استمع إلى دندنة قلبك، تلك التي تختلف عن دندنة غيرك. فلا أحد يملك نفس الموسيقى في داخله، وكل صوت فيه هو نغمة فريدة. حين تصنع قهوتك وتوزن المكيال بعناية، تذكر أن الحياة مثلها، دقيقة في تفاصيلها، موزونة في نغماتها. وربما تذكّر، كما تذكرت أنا، من غاب عنك في لحظة بسيطة، فأصبح لحنًا يملأ فراغ الغياب.

في مجتمعنا اليوم، كثيرون يحلمون بأن يكونوا شعراء، يتمنون أن تُكتب أسماؤهم في دفاتر الشعر الكبيرة، لكنهم يقفون حائرين بين كلمات لا تعرف الإيقاع، وحروف تخلو من الروح. ما يحتاجه الشاعر الحقيقي هو أن يمنح نفسه الفرصة ليحبّ، ليتمشى في سوق الحياة، ليصغي إلى وقع المطارق، ليكتشف داخله ذاك الإيقاع الذي لا يُنسى. هو يبدأ بحب الكلمة، ثم يمشي بها، ثم يطير فوقها، حتى يصبح ذلك الإيقاع هو نفسه نَفَسُه.

ولكي تعيش هذه التجربة، عليك أن تثق بنفسك، لا تلتفت إلى من يحاول أن يضعك في قفص النمط أو يردد لك أن الشعر فن معقد أو حكراً على فئة خاصة. الشعر موسيقى الحياة، وهذه الموسيقى لا يحتاج إلى آلة باهظة أو نظرية معقدة، بل إلى قلب ينبض، إلى نفس دندنة، إلى إرادة تشق طريقها في عالم الحروف.

تعلّم أن تحب الكلمات كما تحب نغمة العود، أن تسمع في كل حرف لحنه، وأن تعيش اللحظة التي تكتب فيها، فلا تكون أنت فقط كاتبًا، بل عازفًا ومغنيًا في آنٍ معًا. هكذا تخرج الأبيات كأنها ألحان لا تقاوم، تنسج ذائقة خاصة بك، لا يشبهها أحد. موسيقى تفتن، تسرق القلب، لا تزعج أو تُنفّر.

في النهاية، الشعر ليس رقماً على صفحة أو صورة في كتاب، إنه قصيدة الحياة التي تعزفها أنت، وهو فن يعلّمنا كيف نحب، كيف نحيا، وكيف نصنع من الكلمات لحنًا يخلّدنا في ذاكرة الزمن. فلتجعل من صوتك الخاص موسيقى، ومن دندنة قلبك إيقاعًا، ومن حبك للكلمة حياة لا تنتهي.

?

وهكذا تبدأ رحلتك، لا كمتلقي جامد، بل كفنان يرسم بيده وتتنفسه نفسه، لتخرج من داخلك قصيدة الحياة، بكل ما فيها من بهجة، فخامة، شجن، وضحك، وتلقائية. هكذا، يحلو الشعر، ويعيش فينا، لا مجرد كلمات تُقرأ، بل موسيقى تُحيا.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 3
1
محمد يوسف آل مال الله
[ عنك ]: 9 / 6 / 2025م - 12:29 م
عزيزي الأستاذ أبا كميل… لقد صدقت عندما قلت "ولكي تعيش هذه التجربة، عليك أن تثق بنفسك، لا تلتفت إلى من يحاول أن يضعك في قفص النمط أو يردد لك أن الشعر فن معقد أو حكراً على فئة خاصة."، لقد مررت بتجربة الشعر بعد أن تعلّمت بعضًا من البحور على يد الأستاذ القدير الشاعر ناصر معتوق العلي وقد استطعت أن أكتب الشعر، "لا أن أكون شاعرًا" ولكن إثباتًا بأنّ الإنسان قادرًا أن يكتب الشعر بطريقة صحيحة ذات معان غزيرة. دمت كاتبًا بارعًا أيّها الأخ العزيز.
2
محمد يوسف آل مال الله
[ عنك ]: 9 / 6 / 2025م - 12:31 م
وهذا مثال مما كتبت….

لَا لَمْ يَمُتْ مِنْ زَيْنَبٍ أمْرُ
والسّوطُ فَوقَ مُتُونِهَا قَسْرُ

وقَفَتْ مُنَادِيةً عَلَى أبْطَالِهَا
لَا لَمْ يَنَلْ مِنْ عِزّنا شِمْرُ

مَا هَابَهَا زَجْرٌ ولَا عَنْ فَرْضِهَا
قَصُرَتْ، ولَا مِنْ مِثْلِهَا صَبْرُ

رَمْزُ البُطُولَةِ مَجْدُهَا مِنْ حَيْدَرٍ
إرْثًا ولَا مِنْ غَيْرِهَا نَصْرُ
3
عماد آل عبيدان
[ Saudi Arabia ]: 9 / 6 / 2025م - 2:47 م
شهادتك الصادقة التي تحمل في طيّاتها روح المجرّب، لا المتفرّج. وصدقًا، ما أبهى تلك اللحظة التي يخطو فيها الإنسان إلى عالم الشعر من باب التجربة لا الادّعاء، ومن نافذة الاكتشاف لا التكلّف.

وقولك: “لا أن أكون شاعرًا، ولكن إثباتًا بأن الإنسان قادر على أن يكتب الشعر بطريقة صحيحة ذات معانٍ غزيرة”، لهو أعظم من كل ادّعاءات “الشاعرية الموروثة”، لأنه تصريح من معدن التجربة لا زخرفة العناوين. وللحق، فإن هذا الإدراك في ذاته شعرٌ من نوعٍ آخر