آخر تحديث: 10 / 6 / 2025م - 2:47 ص

الوعيُ بالكتابةِ «2»: العُمق، الاتِّساع، الشُّمول

محمد الحميدي

تختلفُ الكتابةُ باختلافِ الكَاتِب، فثمَّة من يلجأُ إلى الجُمل القصِيرة والأسلُوب المباشِر، وآخر يلجأُ إلى الجُمل الطويلَة والتَّوريات البليغَة، وثالِث يلفُّ الغُموض كتاباتِه فتحتاجُ إلى فكِّ شِفرتها، ورابِع يميلُ لتضمِين عِباراته صوراً بلِيغة متفرِّقة تحكِي تشظِّي ذِهنه وتفكِيره، وخامِس يستخدِم التأمُّل ومُداورَة الفِكرَة وتكرارَها وتقلِيبَها من جَميع الزَّوايا، وسادِس يسعَى للقَصد المباشِر والاقتصِار على الكَلمات المؤدِّية للغَرض بدُون زخرَفة وتزوِيق، وسَابع يُضيف حَرارة وشعوراً لما يكتُب لتكَون أكثَر حميميَّة وقُرباً، وثامِن يستخدِم الكَلمات المألُوفة المفهُومة من أجلِ إمسَاك المتلقِّي واستِمرَاره، فهذهِ الاختِلَافات وكَثيرٌ غيرُها تَندرِج ضِمن تنوُّع الكتابةِ واختِلَافها، لكنَّ هدفَها يظلُّ واحداً؛ إذ يتمثَّل في زِيادَة وعْي المتلقِّي والارتِقَاء بوجُوده الحيَاتي والذِّهني، وهُنا تتداخلُ ثَلاث خصائِص في المكتُوب تُساعده في أداءِ مهمَّته، وهيَ العُمق والاتِّساع والشُّمول.

العمقُ

اللجوءُ للكتابةِ فعلٌ من الأفعالِ الحكيمَة؛ كَونه يهدِف إلى التَّغيير وإحدَاث الفارِق، وكلُّ فعلٍ يسعَى إلى هذَا الهدَف ستكُون له شُروط وخطَّة موضُوعة وإنْ لم يتمَّ الإفصَاح عنها، فالكتابَة الاقتِصَاديَّة تميلُ لتعرِيف النَّاس بطرُق النَّجاح وجَمع المَال، والكتابَة الاجتِمَاعيَّة تكشِف كيفيَّة بِناء علَاقات ناجِحة، والكتابَة القانُونيَّة تسعَى لغَرس المفاهِيم والأحكَام المُلزِمة، وجمِيع هذهِ الكتابَات من أجلِ أنْ يكُون لها حضُور وتأثِير عليها أنْ تتَّسِم بدقَّة المحتوَى وصِدقه إضافَة إلى امتِداده العمُودي؛ سَواء أكَان الامتِداد في زَمان التأسِيس أو في تارِيخ لاحِق، وهذَان مجَالان واسِعان تدُور فيهما الكتابَة وتستَقِي منهما العُمق الذي تحتاجُه.

الامتدادُ في زمانِ التأسيسِ يعنِي العودةَ إلى البداياتِ الفعليَّة للمكتُوب، فكيفَ تكوَّنت الفِكرة، ومِن أينَ استقَاها الكَاتب، ومَاذا أضَاف لها، وما التغيُّرات التي أحدثَها، كَما يُمكن أنْ يُجيب على تساؤُل لماذَا كَتَبها؛ إذ ليسَت هُنالك فِكرة قادِمة من العَدم، فجمِيع الكتابَات والأفكَار لها أصلٌ سابِق تعتمِد عليه، وفي المأثُور ”لَولا الكَلام يُعاد لنَفِد“؛ أيْ أنَّ الكَلام يتَّصل أوَّله بآخرِه ولا ينقطِع إلا إذا قطعَه القائِل أو الكَاتب، والعرَب في تُراثهم يُشبِّهون الكَلام بالشَّجرة ذاتِ الغصُون المتعدِّدة فيُروى عنهم ”حَدِيث ذو شُجون“، والشُّجون أغصَان الشَّجرة وتفرُّعاتها التي تحمِل الأورَاق والثِّمار، وهوَ حَال الكتابَة حِينما تحمِل الثَّمرة إلى المتلقِّي، أو تُظلِّل عليه بأغصَانها وأوراقِها.

الامتدادُ في التاريخِ يشيرُ إلى مُجمَلِ التغيُّرات التي طرأَت عليها، حيثُ لكلِّ فكرةٍ مولُودة أبٌ يرعَاها وأمٌّ تُرضِعها، فالأبُ قائِلها والأمُّ من زوَّدتها بما تحتَاج إليه كَي تنمُو وتكبُر؛ لذَا لا غرابَة أنْ تتعدَّد الأمهَات، وخُصوصاً عَبر تاريخِها الطَّويل في التَّداول، إذ ليسَت هُنالك فِكرة تظلُّ مُغلَقة وخالِيَة من التأثُّر؛ لأنَّ طبيعَة الكتابَة وعلَاقتها بالحيَاة تستلزِم التأثُّر والتأثِير، ما يعنِي أنَّ ”العُذريَّة الكتابيَّة“ وهمٌ وخِدَاع يمارسُه الكاتِب على نفسِه وعلى الآخرِين؛ لزيادَة المكَانة والتأثِير وبثِّ الرَّهبة والدَّهشة، وهوَ ما يتناسَب معَ وظيفتِه التي نذَر نفسَه لتأدِيتها.

وظيفةُ الكتابةِ تتمثَّل في نشرِ الوَعي بينَ البَشر، ولا فرقَ بينَ الأجناسِ والأزمِنَة، فالجمِيع مُستهدَف سَواء الآن أو بعدَ مِئات السِّنين؛ لأنَّ الكتابَة لا تمُوت ولا تختفِي من الوجُود بمُجرَّد وضعِها على الرَّف أو إِغلاق الأبوَاب دُونها، بلْ تظلُّ في حَالة كُمُون وترقُّب إلى أنْ يَأتي الزَّمن الذِي تُعاود فيه الظُّهور والانتِشَار؛ حيثُ لكلِّ فكرةٍ زمنٌ يُناسِبها تنمُو فيه وتنتشِر ويتدَاولها النَّاس، بينَما تتوارَى وتختفِي في أزمِنَة أُخرى لعدَم الحاجَة إليها إذ لا فائِدة تُقدِّمها، وهُنا تَبرز أهميَّة الامتِدَاد في إعادِة صِياغتها وتقدِيمها، فيُعاد تَظهِيرها بأشكَال أُخرى أو ضِمن أفكَار أكثَر موثوقيَّة وجاذبيَّة.

عمقُ الكتابةِ يَأتي من الحفرِ المستمرِّ وراءَ الفكرةِ والبحثِ عن تَعالُقاتها الزمنيَّة والتاريخيَّة وكيفَ يتمُّ تقدِيمها وبيانُها في المواقِف المُختلِفة، وهوَ ما يعنِي أنَّها تتَّصل عُضويًّا بالمكتُوب، حيثُ تشكِّل جُزءاً من وجُود الإنسَان، الذِي يتولَّى إعادَة صِياغتها بما يتناسَب وحيَاته؛ ما يُشِير إلى التأثُّر والتأثِير وهيمَنة سُلطة التَّداول على الذِّهن، ودفعِه إلى أنْ يُعيد ترتِيب نفسِه بانتظامٍ وُفق آليَّات ثقافيَّة راسِخة، استقَاها بوعيٍ وأدخلَها إلى لا وعيِه لتُمثِّل العُمق المطلُوب في أيِّ كتابَة يُنتِجها، معَ عدَم إغفَال الاتِّساع فيها، فلا يُمكن لأيِّ كتابةٍ أنْ تمتَلِك قِيمة وتأثيراً إذا اقتصرَت على العُمق وتخلَّت عن الاتِّساع.

الاتِّساعُ

تحملُ الكتابةُ ضرُورتها في داخِلها فهيَ لا تَأتي لأجلِ المتعةِ والتَّرف؛ لأنَّها تسعَى إلى الارتقاءِ بالوَعي وزيادتِه لدَى الإنسَان، وهذا الهدَف يتأتَّى عَبر المثابَرة والجدِّ والاجتِهَاد وتكرِيس الموارِد بالبَحث والقِراءَة والاطِّلاع والتأمُّل والتَّفكير وإبدَاع طرُق وأسالِيب جدِيدَة، يتمُّ تناولُ الأفكَار من خِلَالها لتكُون أكثَر جذباً وأكثَر إحكاماً وإقناعاً، وإلا ذهبَت جَمِيع الجهُود المبذُولة أدرَاج الرِّياح ولم تحقِّق الهدَف من ورائِها، ولهذَا سيكُون للمحُيط المتَّصل بالأفكَار أهميَّة قُصوى في حصُولها على التأثِير، فمهما بلغَت من الجدَّة والابتِكَار لن تستطِيع إحدَاث التأثِير المطلُوب إلا عَبر مُسانَدة العوامِل المحيطَة، وهوَ ما يعنِي الامتِدَاد الأفُقي للكتابَة.

الامتدادُ العمُودِي يشيرُ إلى العمقِ الزَّمني والتَّاريخي للأفكَار والعِبَارات، بينَما الامتِدَاد الأفُقي يتمثَّل في الحاضِر المباشِر الذِي يعيشُه الإنسَان ويتعرَّض له، إذ لا يكفِي لأجلِ نجَاح الفِكرة وامتِلاكها قوَّة التأثِير أنْ ترتبِط بماضِيها فقَط، بلْ ينبغِي أنْ تتَّصل بحاضِرها كَذلك؛ لأنَّ الحاضِر يعطِيها قوَّة التَّداول والانتِشَار، فتغدُو أكثَر قرباً من المجتمَع، يتداولُونها ويتحادثُون بِشأنها ويقلِّبونها في أذهَانهم وتنبَثِق منها مُناقشَاتهم ومُلاحظَاتهم، فهيَ جميعاً تتَّصل بالفِكرة المطرُوحة وتعمَل على إثرائِها، لأنَّ إثراءَها قوَّة لها ورسمٌ لتصوُّر ذِهني يستمرُّ باستِمرارها، ولا يُمكن لهذَا التصوُّر أنْ يَأتي صُدفة أو منفرداً، إذ يتشكَّل عَبر الجماعَة وأُطروحَاتها.

سيكونُ للعناصرِ المحيطةِ بالفكرةِ أهميَّة بالِغة في امتِلَاكِها قُدرةَ التأثيرِ وصياغةِ ذهنيَّة المتلقِّي، وهذَا يستدعِي الاهتِمَام أكثَر باستِكشاف آفاقِها ومدَيَاتها وتفرُّعَاتها وكيفيَّة عملِها في التأثِير والصِّياغة وصِناعة الوَعي، وهوَ ما يندرِج ضِمن المعرِفة الواسِعة والتفصيليَّة؛ حيثُ الأفكَار والعِبارات تدُور ضِمن نِطاقَين، هُما: المسَاحة المحيطَة بها من كَلِمات وصُور ومشَاعر، والمسَاحة الممنُوحَة لها من قِبل الآخرِين بغَرض مُناقشَتها والإضَافة عليها أو إبدَاء الملاحَظات حَولها، وفي النِّطاقين تخضَع لقانُون التأثُّر والتأثِير، سَواء أتمَّ القبُول بها أو رفضُها، والنَّتيجة أنَّها ستكُون قد أنجزَت مهمَّتها بنجَاح واستطاعَت زِراعة الوَعي الذي تُريد.

النِّطاقان المحيطانِ بالفكرةِ هدفُهما توسِيعُها وإمدادُها بوسائلِ الحياِة والبَقاء، فمن ناحِية التَّوسِيع تحتَاج إلى جَمِيع المعلُومات المتعلِّقة بها في زمنِها، حتَّى تكتَمِل وتَصِل إلى نهَاية المعرِفة، حيثُ المطلُوب من أيِّ كاتبٍ أنْ يبذُل جهداً في البَحث عنها وجمعِها عَبر التَّساؤل حَول آخر ما وصلَت إليه، قَبل أنْ يضَع بصمتَه ويُقدِّم الجدِيد الذِي سيَنفرِد به، أمَّا من ناحِية الوسائِل والطُّرق فثمَّة احتِيَاج لإدراكِ أسالِيب العَصر في الكتابَة والتَّداول وكيفيَّة المُخاطبَة وإجراءِ النِّقاشات، التي تعدُّ إجراءَات ضروريَّة تُساعِد على تَجاوز الكتابَة سُوء الفَهم الذِي يُمكن أنْ يحصَل، وكَذلك الخرُوج بها من الانغِلَاق الذِي قد يعترِيها نتيجَة عدَم إيصَالها بشَكل جيِّد.

إذَا كانَ العمقُ يُعطِي الفِكرةَ مِصداقيَّتها ويُشدِّد على أهميَّتها وأسبقيَّة القولِ بها، فإنَّ الاتِّساع يُبيِّن علاقتَها بالحيَاة وضرُورة وجُودها بينَ الافرَاد، حيثُ باتَت جزءاً من وجُودهم، وامتلكَت قُدرة في إحدَاث التأثِير على سلُوكيَّاتهم وأقوَالهم، بما اختزنَه وعيُهم من صُورتها المرسُومة، إذ لم تعُد فِكرة مُجرَّدة مُحلِّقة في السَّماء، بلْ تنزَّلت إلى مرتَبة الممارسَة الوجوديَّة في السُّلوك والمناقشَة، وبهذَا ستخضَع للمُساءَلة والمُداوَلة المستمرَّة، أمَّا النَّتيجة فتَأكيد تأثيرِها وقُدرتها على إحدَاث الفَارِق، وهذَا لا يُمكن أنْ يحدُث إلا إذَا اتَّسمت بالشُّمول.

الشُّمول

الحياةُ تنوُّع وتعدُّد في الأفكارِ والمعارفِ والخِبرَات، وهُنا تكمُن مِيزةُ الكتابةِ في أنَّها تستطيعُ جمعَ كلِّ الاختلافاتِ والتنوُّعات وإعادَة صَهرها ضِمن قَالب واحدٍ يُفضي إلى معرِفة جدِيدَة، فالدَّمج بينَ الأفكَار المختلِفة ضِمن علُوم متعدِّدة كَما هوَ بينَ السِّياسة والاقتِصَاد؛ أنتَج سِياسَات اقتصاديَّة مارسَتها المنظَّمات والسُّلطات وامتدَّ تأثيرُها إلى المجتَمعات، حيثُ الهدَف النِّهائي من وَضع السِّياسات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والقضائيَّة والقانونيَّة إلخ، هوَ التأثِير في حيَاتهم واستِبدَال غَير المناسِب من عَاداتهم وتَقالِيدهم، بأُخرى تُشاكِل رُوح العَصر وتُسايره وتَستفِيد منه.

الفكرةُ تنمُو منذُ بِداياتها معَ مُنشئِها حِينَ يطلقُها في المجتمعِ الذِي يعيشُ فيه، بلْ يتفاعَلون معَها ويتداولُونها لإثرائِها وزِيادَة إحكَامها، ولا تَنتهِي بمَوت المنشِئ وارتِحَاله؛ فيَأتي آخرُون يعملُون على إكمَال ما بدأَه من ناحِية إثرائِها وإكمَال صَقلِها بما يتناسَب معَ حيَاتهم وعَصرهم، والإثراءُ لا يكتَمِل ببقائِها ضِمن أرفُفٍ معزُولة أو غُرَف مُغلَقة لا تتَّصل بغيرِها من الأفكَار والعلُوم والمعارِف والخِبرات؛ لأنَّ شَرطها أنْ تتَّصل بهم من أجلِ إحدَاث التأثِير، وهيَ المرحلَة الثَّالِثة من مراحِل حيَاة الفِكرة، وفيها تُوضع الخطُوط النهائيَّة لحدُودها وصِلَاتها.

حدودُ الفكرةِ وصِلاتها مسألةٌ في غايةِ الأهميَّة؛ كَونها ترتبطُ بإمكانيَّة تطبيقِها، كَما تتَّصل بصدقِها المعرِفي، فالأفكَار العموميَّة والتي لا يُمكن إثبَاتها أو نفيُها؛ تبقَى في حَالة من القبُول وعدَم القبُول، ويَنتاب الأفرَاد التردُّد تِجاهَها، إذ كَيف يُمكن القبُول بفِكرة لا تُعرف بدايتُها من نهايتِها أو إلى أيِّ نتيجةٍ تقُود! وهذِه إحدَى السلبيَّات الخطِيرَة والقاتِلَة لدَورِها وتأثِيرها، أمَّا الأفكَار الفاقِدَة لصِلَاتها بغيرِها من المعارِف؛ فتبقَى حبيسَة إطارِها الذِي أُنشِئت ضِمنه ولا تستطِيع مغادرتَه، وهوَ ما يعنِي اختِصَاصها بفَرع محدَّد من فرُوع المعرِفة؛ الأمرُ الذِي يقلِّل من انتِشَارها وتداوُلها ومعرِفة الأفرَاد لها وبالتَّالي قبُولهم لأُطروحتِها.

القبولُ وعدمُ القبولِ مسألتانِ متعلِّقتان بمدَى صدقِ الفكرةِ وقُدرتها على إثباتِ ما تحتَوِي، فمثلَما لا يُمكن القبُول بفِكرة عامَّة لا حدُود لها، كَذلك لا يُمكن القبُول بفِكرة لا تستطِيع إثبَات نفسِها أو ما تدَّعِيه، وهُنا ستنحُو تِجاه الجدَل والمزايَدة فيه، وسيمتَلِئ الفَضاء بالنِّقاشات الدَّائرة التي لن تقُود إلا لمزيدٍ من الاختِلَاف، وبهذَا سيتقلَّص تأثِير الفِكرة وقد ينعدِم، وستنحَصِر ضِمن جماعَة محدَّدة تقبَلها وتعتنِقُها، بينَما ترفضُها الجماعَات الأُخرى ولا تَراها ذَات قِيمة، ومن هُنا أهميَّة الاتِّصال بمعارِف العَصر وعلُومه وخِبراته التي ستُعِين على التحقُّق منها والتيقُّن من صِدقها.

لا يمكنُ للفكرةِ أنْ تخضعَ لتجَارِب خارجَ إطارِها الذِي تنتَمِي إليه؛ إلا إذَا ارتبطَت بمعرِفة تنتَمِي لحقلٍ مُختلِف عن حقلِها، لكنَّه مُتناسِب ومُتشاكِل معَه، فالفِكرة الاجتماعيَّة يُمكن إجرَاء تجَارب عليها ضِمن حقُول الاقتِصَاد والسِّياسة، لكنْ لا يُمكن إجرَاء تجَارب عليها ضِمن حقُول الفِيزيَاء والكِيميَاء، إذ ثمَّة فواصِل تمنَع اختِلَاط الأفكَار وتمازُجها من أجلِ إبقائِها داخِل إطارِها الذِي تنتَمِي إليه، حيثُ تتشاكَل معَ مجمُوعة مُماثِلة من الأفكَار، فتتفاعَل معَها ويَستفِيد بعضُها من بَعض، وهُنا يُمكن اعتِبَار الشُّمول في العَلاقة قائماً على التَّمييز بينَ الفِئَات، وهذَا ما كرَّسته المناهِج الحدِيثة في تفريقِها بينَ علُوم تختصُّ بالطَّبيعة وأُخرى تختصُّ بالإنسَان وثالِثة تختصُّ بالتِّجارة ورابِعة بالصِّناعة وخامِسة بالفَضاء وسادِسة بالمعرِفة وهكَذا.

خِتاماً

الشُّمولُ يعنِي وجُودَ علاقاتٍ متعدِّدة بحقُولٍ مختلفةٍ ضمنَ معارفِ العصرِ وعلومِه وخبراتِه، إذ تتميَّز بقدرتِها على التَّفاعل معَ الأُطروحات، وتقدِيمها لإضَافات يُمكن الاستِفَادة منها في التأسِيس أو استمراريَّة المُتداوَل من النظريَّات، ما يعنِي أنَّ للتَّدوِين قِيمة عُليا في حِفظ التَّفاعُلات التي تحدُث؛ لتسهِيل العَودة واكتِشَاف الفُروقات وإدرَاك التَّمايُزات، وبهذَا سيتمُّ تجاوُز حَالة التَّلاقي إلى حَالة التَّكامُل والتَّماهِي، حيثُ الفِكرة التي تنتَمِي لمجَالٍ من المجَالات يُمكن توظِيفُها ضِمن مجَالات أُخرى وبأكثَر من شَكل، وكلَّما ازدَاد توظِيفُها وارتفَع عدَد الأشكَال التي تتكَامل بها ومعَها ازدَاد تأثِيرُها وإمكَانُها على إحدَاث الفَارِق.