لا تؤذِ… وإن لم تُرض
في دروب الحياة المتعرجة، كثيرًا ما نواجه مواقف تُعيد تشكيل نظرتنا إلى أنفسنا وإلى الآخرين، مواقف تُحتِّم علينا أن نوازن بدقة بين التمسك بمبادئنا الأخلاقية، وبين مراعاة مشاعر من نتعامل معهم. ولسنا دائمًا مطالبين بأن نُرضي الجميع أو أن نكسب إعجابهم، فذلك مطلبٌ متعذِّر في عالمٍ متعدد الطبائع والاختلافات، غير أننا في المقابل مطالبون بألا نكون سببًا في أذى أحد، لا قولًا ولا فعلًا. ولعل من أبلغ ما قيل في هذا المعنى: ”ليس عليك إسعاد كل الناس… ولكن عليك ألا تؤذي أحدًا من الناس“.
هذه العبارة الموجزة تختصر فلسفة عميقة في التعامل الإنساني، إذ تُعبّر عن وعيٍ ناضجٍ يُدرك أن القبول المطلق من الجميع غايةٌ لا تُدرك، وأن السعي لإرضاء كل أحد يُنهك الروح ويُفقد الإنسان بوصلته الداخلية. فليس المهم أن يُحبنا الجميع، بل أن نكون منصفين متزنين، لا نُسيء عمدًا، ولا نكسر خاطرًا، وألا نكون سببًا في جرح قلبٍ أو تشويه نية.
فمن هذا المنطلق، تبرز قيمة التسامح لا كخيارٍ ثانوي، بل كفضيلة راقية لا يقدر عليها إلا الأقوياء. فالعفو لا يصدر عن ضعف، بل عن قوة داخلية ترفض الانحدار إلى مستويات الانتقام والضغينة. إن التسامح تحررٌ لا خنوع، وسموٌّ لا استسلام، هو انتصار على الذات الغاضبة، وعلى الغلِّ الكامن في الصدور.
لكن من أشدِّ ما يُفسد العلاقات الإنسانية هو التطفل على النوايا، ومحاولة تأويل خفايا القلوب بغير علم. فكم من قلبٍ طيبٍ أُسيء إليه لأنه لم يُفهم، وكم من نقيِّ السريرة شُكِّك في مقصده بغير حق. وهنا تبرز حكمة إيمانية راسخة: ”فلا يعلم ما في القلوب إلا علّام الغيوب“، فلمَ نتسرع في الأحكام، وقد أمرنا الله أن نحكم بالظاهر، ونَدَع الباطن لخالقه؟ إن العدل يقتضي أن نحصر تقييمنا في الأقوال والأفعال، لا فيما لا نراه ولا نعلمه. فمن هنا تبرز أهمية هذا الموضع، ليس فقط لأنه يُسلّط الضوء على مهارات التعامل مع الناس، بل لأنه يُوجّه الإنسان إلى فهم ذاته، وإلى إدراك موقعه في شبكة العلاقات الإنسانية، ومعرفة حدود مسؤوليته الأخلاقية والاجتماعية تجاه الآخرين.
ولأننا نعيش ضمن منظومة اجتماعية متشابكة، لا يمكن للمرء أن يتصرف بمعزلٍ عن آثار أفعاله، كان لزامًا عليه أن يُدرك أن كل كلمة، وكل موقف، وكل ردة فعل، قد تترك أثرًا لا يُمحى في قلب الآخر. ولذلك، فإن من تمام الفطنة أن يُراعي الإنسان أثر وجوده في حياة من حوله، دون أن يُحمّل نفسه فوق طاقتها، أو يُرضي غيره على حساب احترامه لذاته. إن الانسجام بين احترام الذات واحترام الآخرين هو جوهر النضج العاطفي والإنساني. فليس كافيًا أن تكون صادقًا مع نفسك، إن كنت في الوقت ذاته تستهين بمشاعر غيرك، كما لا ينفع أن تُجامل الآخرين وأنت تُخالف ضميرك. فالتوازن هنا لا يُولد صدفة، بل هو ثمرة تربية داخلية عميقة، وتجربة متراكمة تُهذّب الانفعال وتُرشد الاختيار. ولأن القلوب بطبعها تختلف، فقد يتعرض الإنسان لسوء فهم رغم نقاء مقصده، وهنا يكون الرد الحقيقي ليس بالشرح المستفيض ولا الدفاع المستمر، بل بالثبات على المسار القويم، وترك الحكم لله الذي يعلم ما تُخفي الصدور. فما دام الإنسان صادقًا مع ربه ومع نفسه، فلا يضره من جهل قيمته أو أساء تأويل موقفه. فمن أبهى صور الرقي الإنساني أن نمنح الآخرين مساحة للخطأ دون أن نُقصيهم، وأن نعذر جهلهم قبل أن نُدينهم. فكلنا نُخطئ، وكلنا نحتاج إلى من يُلتمس لنا العذر. وما أجمل أن يختار المرء أن يكون مصدر سلامٍ في بيئته، يطفئ نيران الخلاف، ويُرمّم الشروخ التي قد تُفسد المودة.
وفي خضم هذه الرحلة الأخلاقية، على الإنسان أن يُدرك أن مسؤوليته لا تَكمُن فقط في أفعاله الظاهرة، بل أيضًا في أثر صمته، وفي ردود فعله غير المُعلنة. فالتغافل عن الزلات، والتسامح عند الغضب، وضبط اللسان عند الانفعال، كلها مواقف لا تُرى بالعين، لكنها تُحفَر في القلوب. إن فهم النفس والتعامل النبيل مع الناس ليسا واجبَين منفصلَين، بل هما جناحان يُحلّقان بالإنسان نحو حياةٍ متزنةٍ، وعلاقاتٍ متزنة. ومن أحسن الفَهم والعمل، عاش سلامًا داخليًا ينعكس على سلوكياته، فلا يضطرب عند المديح، ولا ينكسر عند النقد، لأنه بنى قيمته على أساسٍ راسخ لا تهزه تقلبات الناس.
ففي مستهل كل علاقة، سواء كانت شخصية، اجتماعية، أو مهنية، ينشأ توقّعٌ فطري بأن التفاهم سيكون سهلًا، وأن النوايا الطيبة ستكفي لخلق بيئةٍ آمنةٍ ومتزنة. لكن الواقع غالبًا ما يُثبت العكس؛ فكل إنسان يحمل بداخله تركيبةً معقدة من التجارب والظروف والانطباعات المسبقة، ما يجعله يقرأ سلوك الآخرين من زوايا لا نراها نحن. وهنا تتجلى القاعدة الأخلاقية الأهم: ”لا تؤذِ أحدًا“. قد لا يكون بوسعك أن تُرضي الجميع، لكنك دومًا تملك خيار أن تتحدث بلطف، وأن تتجنب التجريح، وأن تعتذر إن أخطأت، وأن تحافظ على نقاء نيتك. فالأذى، وإن بدا بسيطًا في لحظته، قد يترك في قلب الآخر أثرًا لا يُداوى، وجرحًا لا يُرى بالعين، لكنه يظل نازفًا في صمت.
التسامح، في هذا السياق، لا يعني التفريط في الحقوق أو قبول الظلم، بل هو قرار داخلي بأن نحرر أنفسنا من عبء الحقد. فالكراهية عبءٌ ثقيل يستهلك صاحبه، بينما الصفح طمأنينة تُنعش الروح. وهذا ليس كلامًا إنشائيًا؛ بل تؤكده الدراسات النفسية التي تربط بين التسامح وارتفاع مؤشرات الصحة النفسية والجسدية لدى الأفراد، فضلًا عن عمق علاقاتهم الاجتماعية.
وفي المقابل، من يجعل ردود أفعاله قائمةً على الانتقام، يجد نفسه عالقًا في دوامة الاستنزاف الداخلي، سجينًا لتصرفات الآخرين. أما من يصفح، فقد اختار أن يكون حرًّا، لا يحمل الماضي، ولا تُقيّده ردود الأفعال المتسرعة. لكن مما يبعثر الروابط الإنسانية حقًّا هو الاستعجال في تفسير النوايا، فكثيرٌ من الناس يُسيئون الفهم لأنهم يتعاملون مع الظنون وكأنها حقائق، مع أن النية مسكنها القلب، ولا سبيل لمعرفتها إلا بعلم الله. إن الظن السيئ يُربك الثقة، ويُشعل الخلافات، ويجعل الإنسان في صراعٍ دائم، لا مع الآخرين فقط، بل مع نفسه أيضًا. لذا، نحن لا نُطالَب بإرضاء كل الناس، ولا بخوض دواخلهم، بل فقط بأن نحترم حدودنا البشرية، وأن نقيم العلاقات على أساس ما نراه من أفعال، لا ما نتصوره من نوايا. وبهذا نُسهِم في بناء بيئةٍ أقل صراعًا، وأكثر وئامًا. فإذا كنا لا نحب أن يُساء الظن بنا، فلماذا نُسارع بالحكم على نوايا الآخرين؟ أليس الأجدر أن نُعامل الناس كما نحب أن يُعاملونا؟ تلك هي القاعدة التي إن تمسّكنا بها جلبت لحياتنا عدلًا وسلامًا أعمق.