نزار قباني وظاهرة الإقبال الجماهيري
من الأفكار المشهورة التي ارتبطت بالتجربة الشعرية عند الشاعر نزار قباني هي - أولا - فكرة الاستسهال التي جذبت الجماهير إلى شعريته وثانيا فكرة المقارنة وبالخصوص مع محمود درويش، بينما الثالثة التي ارتبطت به هي فكرة أثر هزيمة 67 على تجربته.
وسأتطرق إلى تلك الأفكار تباعا.
لا أظن الأمر بهذه البساطة التي تدعونا للقول بفكرة الاستسهال وكأنه يتقصد هذه الفكرة، فشخصية نزار الشعرية لا توحي أنه يتقصد الاستسهال بوصفه إحدى عناصر التجديد في شعره.
لكنه في ذات الوقت كان محكوما بمرجعيات شعرية مؤثرة بداية عند فوزي معلوف وجبران خليل جبران وانتهاء عند سعيد عقل وغيرهم.
هذه الموجة من الشعراء كانت اللغة على أيديهم قد تخلصت من حياتها القاموسية، وأصبحت أكثر حيوية وقدرة على ارتياد مناطق تعبيرية جمالية غير مسبوقة، وبإيقاعات بسيطة وألفاظ سهلة التركيب.
يضاف إلى ذلك أن نزار وضع الشاعر في تصوراته، وخصوصا في بداياته، موضع الذي يحمل على عاتقه مهمة كبيرة، ألا وهي تنوير الناس وإيقاظهم. وكانت الرافعة لهذا التصور نكسة 48 في فلسطين، وما تلاها من نكسة 67.
هذان العاملان هما اللذان أوجدا المبرر النظري لفكرة أن نزار قرب الشعر للناس.
لكن الحقيقة أن شعرية نزار وشخصيته وهما لا ينفكان على الإطلاق، وهما من البساطة ما يجعل من شعره بسيطا سلسا غير معقد وغير انفعالي بالمطلق، وهذا ما ترافق أيضا مع سليقة الجماهير وتلقيهم له.
أما فكرة مقارنة نزار بمحمود درويش رغم أنهما ينتميان إلى مدارس شعرية مختلفة، ورغم اختلاف الأجيال، فإن فكرة المقارنة عادة ما تكون مشروطة وفق عناصر محددة في تجربة كل منهما، سواء على مستوى تشكل الصورة الشعرية أو مقدار توظيف الأسلوب البلاغي أو حتى المقارنة في إنتاج المعنى.
ناهيك عن أن مناهج المقارنة في الدراسات النقدية متشعبة وتشمل جميع الجوانب المختلفة في حياة المبدع.
بالنسبة لنزار ومحمود درويش يمكن تتضح ملامح المقارنة بينهما أكثر قبل الانعطافة الكبرى التي أخذ درويش بيد تجربته إليها، والتي شكلت تحولات مهمة في تطوير تجربته باتجاه معانقتها للوجود الإنساني ككل بعد أن كان شاعر المقاومة والثورة والوطن منذ «العصافير تموت في الجليل» بالمقابل ضمن إطار ما قبل هذه الانعطافة نلمس عناصر التشابه في استخدام اللغة الشعرية بين الشاعرين، ويبان ذلك في جلّ دواوين نزار الذي لم تكن تجربته تأخذ انعطافات كبرى كما درويش.
ويمكن تكمن جدوى المقارنة، من وجهة نظري حين نضع التجارب في سياقها الاجتماعي والثقافي والسياسي ثم نقوم بإثارة الأسئلة حول العلاقة بينهما على خلفية تجربة كل شاعر في الحياة التي عاشها دون إغفال بالطبع التطور غير المرئي في أغلب الأحيان للأجناس الأدبية التي عادة ما يكون تطورها بطيئا، وإن كانت وشائجه تتصل بكيفية ما بجدل تلك العلاقة. وهذا التوجه نادر نوعا ما في الدراسات النقدية للشعراء العرب رغم كثرتها.
ويمكن صياغة الفكرة الثالثة بالسؤال التالي: كيف تركت الهزيمة أثرا على نزار؟ وما هو الأثر الذي تركه شعره؟
في العديد من حواراته وسيرته الذاتية، يشبه نزار في مجمل تصوراته عن الشعر والشاعر بالقول بما معناه: أن الشاعر مثل الراقص وأنا أحب الرقص ولا أحب الذي يراقب أحد الخطوات أثناء الرقص، وذلك في إشارة إلى أنه لا يولي كبير اهتمام بالتنظير حول الشعر كما يفعل غيره.
هذه الملاحظة تحمل في داخلها أبعادًا جد مهمة، وهي تتعلق بالتحولات التي ارتبطت بهزيمة 67 على جملة من الشعراء ومن بينهم نزار.
ربما نزار من بين هؤلاء الشعراء الذي لم تذهب تحولاته بأثر هذه الهزيمة إلى العمق، وما أعنيه بالعمق هو الانكسار الداخلي الذي يجعل من تجربته دائما ما تفرز القلق والخوف والترقب والضعف، وهذه صفات لا تجد لها محلا في شعر نزار.
صحيح طالت هذه التحولات شعره السياسي لكنها لم تكن سوى بيانات أو لنقل وثائق يمكن دراستها اجتماعيا وتاريخيا.