آخر تحديث: 3 / 8 / 2025م - 11:28 م

قيم السماء تتجلى على أرض كربلاء

محمد يوسف آل مال الله *

تعدّدت القيم الإنسانية في كربلاء كالصبر، والوفاء، والإيثار، والصدق، والثبات، والتضحية وغيرها، حتى تجلّت بأبهى صورها، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي أعظم قيمة يأخذها الإنسان لتكون نبراسًا له في حياته؟

كل تلك القيم عظيمة في ذاتها، إلا أن أعظم قيمة تندرج تحتها كل هذه القيم الإنسانية، ويمكن أن تكون نبراسًا لحياة الإنسان، هي: الوفاء للمبدأ حتى آخر لحظة.

يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177].

لم يكن الصراع في كربلاء بين سيف وآخر، بل بين مبدأ ومصلحة، بين من باع آخرته بدنياه، ومن وفى بعهد الله. فيها تهاوت الرايات، إلا راية واحدة لم تُنكَّس: راية الوفاء للمبدأ والعهد. إذ لم يقف الإمام الحسين في رمضاء الطف لأن النصر كان مضمونًا، بل لأن الموقف كان واجبًا. لم يساوم، لم يساير، ولم يركع، لأنه كان وفيًّا لما آمن به، حتى آخر قطرة من دمه الطاهر.

لماذا الوفاء للمبدأ؟

قبل أن نجيب على هذا السؤال، لا بدّ من توضيحٍ لمعاني القيم آنفة الذكر، لنعلم كيف أن الوفاء سيّد تلك القيم، وبه تكتمل الموازين ويستقيم الإنسان.

لا شك أن معاني القيم عميقة ومتجذّرة في التجربة الإنسانية، وهي من أعظم ما يتزيّن به الإنسان في سلوكه وأخلاقه.

الصبر: يعني القدرة على التحمّل والثبات في وجه الشدائد، وضبط النفس عند الغضب، وانتظار الفرج عند المصيبة، والاستمرار في العمل رغم الصعوبات.

يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10].

الصدق: يعني مطابقة القول للفعل والنية، وهو أن يقول الإنسان الحق ويتحرّاه في حديثه وسلوكه، دون خداع أو تزييف.

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119].

الإخلاص: يعني تصفية النية من كل شائبة، وأن يكون العمل خالصًا لله أو للحق دون انتظار مدح أو مصلحة شخصية.

يقول تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5].

الكرامة: تعني الشعور بالعزّة والاحترام للنفس، ورفض الذلّ والمهانة، مع حفظ حقوق النفس والآخرين.

يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء: 70].

الآن، وبعد أن اتّضحت معاني تلك القيم، نعود لنجيب على السؤال: لماذا الوفاء للمبدأ؟

لأن الإمام الحسين لم يُضحّ بنفسه وأهله وأصحابه طمعًا في دنيا أو لوجاهة في منصب، بل ثبت على مبدأ الحق رغم كل المغريات والتحديات. هذه القيمة تختصر باقي القيم: الصبر، الصدق، الإخلاص، والكرامة، لأنها جميعًا تنبع من التمسّك بالمبدأ وعدم التنازل عنه.

ما معنى أن يكون ”الوفاء للمبدأ“ نبراسًا؟

يعني ألّا تساوم على الحق ولو بقيت وحيدًا، وأن تعيش حياتك بقلبٍ حر، لا تنحني لظالم، ولا تركع لباطل، كما أن عليك أن تجعل الحق فوق العلاقات والمصالح والراحة الشخصية.

كن كأبي الفضل العباس حين وصل إلى الماء، وكان عطشانًا، لكنه رأى عطش الإمام الحسين وأطفال المخيّم أكبر من عطشه وألمه، فلم يشرب، وقال:

”يا نفس من بعد الحسين هوني، وبعده لا كنتِ أو تكوني.“

هنا يتجلّى الوفاء للمبدأ، لا لمجرد شخص، بل لما يُمثّله من رسالة وقيم. فإذا أراد الإنسان أن يجعل من كربلاء مدرسة له، فليحمل هذه القيمة الكبرى: أن يكون وفيًّا للمبدأ، للحق، للعدالة، مهما كلّفه ذلك.

فاليوم، نحن لا نحتاج أن نُحبّ الإمام الحسين فقط، بل أن نحيا كما عاش: أوفياء للحق، صامدين في وجه الباطل، نرفض التنازل عن كرامتنا ومبادئنا، وإن كلّفنا ذلك الدنيا بأسرها.

كربلاء ليست ذكرى، إنها بوصلة، والإمام الحسين ليس رمزًا، بل قدوة. فلنحمل مبدءَه في قلوبنا، ونمشي بنوره في دروب الحياة.

الوفاء للمبدأ هو أعظم دروس كربلاء، وأشرف طريق إلى الله.