هذه معضلتي
أيرحل الجمال ويضيق الكون ويسترسل الظلام في ضوء النهار، أم يشعّ النور وتنجلي الظلمة وتحلّ محلها خيوط الأمل في وجه الألم؟ سؤال في كل نفسٍ تائهةٍ تحلّق لتعيد لروحها التوازن والنصيب من الحياة. حاولتُ أن أنظر إلى حياتي متغافلًا عمّن ينتشل مني أكاليل الفرح في كل لحظة إنجاز، ومن يستهين بقدرتي على النجاح. أحقًا هناك من يبثّ رسائله السامّة بحجّة المزاح؟! آه آه.
جنّ عليه الليل واستلّ الألم موطنه وأخذ يقلب صفحات ماضيه الوثير، يهرب منه تارةً وتارةً يحلّق في بحر إنجازاته ليقف عندها ويستمدّ قوّته. هذا عدنان صاحب الشركة العقارية الناجحة التي ورثها من والده، الولد الوحيد بين خمس فتيات، وهو المحبوب بينهن، العزيز البارّ بوالدته. نجاحه في الجانب العملي لم يُنسِه من يحلم بها شريكةً لحياته، شهد ابنة عمّه كيان، التي تربّت معه في بيت جدّه، صاحبة القلب الكبير، العطوفة والمعطاءة. كبرَا معًا إلى أن توفّى الله والد عدنان، فأصبح عدنان رغم صِغَر سنّه أبًا لأخواته، وقسّم نفسه بين العمل والدراسة وعائلته، وأخذ تيار الحياة يجرّه لينسيه نفسه تحت وطأة المسؤوليات.
استقلّ هو وأخواته ووالدته في منزل مستقلّ عن العائلة، مما دفع أعمامه وجدّته إلى الاستياء منه واتهامه بأبشع التهم، ومنها أنّه سيفشل ويخسر الشركة ويضيّع ما أفنى والده عمره في إنجازه ونجاحه فيها، ليثبت لهم عكس ذلك. وما بين ذلك وهاجسه، شهد، تطرق فؤاده في كل حين. حلمٌ بعيد المنال أن تكون زوجةً له وأبوها عمّه كيان، مستحيل. يسرح بعيدًا في هواجسه ليصل به الحال في كل تجمّع عائلي يكون عمه كيان يتوسّطه، فلا يرى سوى رجلٍ سليط اللسان يتعمّد إذلال عدنان بين رجال العائلة حسدًا وغيرةً وحقدًا بلا أسباب واضحة، وحجّته أنّه يمزح! فما أغربه. ولكن على الرغم من كل ذلك حرص عدنان على حضور كل تجمّع عائلي إرضاءً لوالدته حتى لا يقطع صلة الرحم، وليظلّ ذِكر والده بينهم.
أقرب أصدقاء عدنان ابن عمه جابر، يرى التنمّر والسخرية ويحاول جاهدًا تلطيف الجو دون فائدة، فعمه كيان لا يكلّ ولا يملّ من تصرفاته المبتذلة مع ابن أخيه عدنان، مما دفع جابر إلى الحديث مع كبير العائلة، العم صالح، عمّهم الأكبر «شقيق جدّهم»، الرجل الرشيد الحكيم صاحب الكلمة المسموعة والعقل الراجح. أخبره جابر بحال عدنان مع عمّه كيان وما يحصل بينهما وما ستؤول إليه هذه العلاقة إذا استمرّ كيان بعجرفته تلك مع عدنان. طمأن العم صالح جابر بأنّه سيتحدّث مع عمه كيان وسيحلّ الموضوع بإذن الله، فودّعه جابر مستبشرًا خيرًا.
في اليوم التالي ذهب العم صالح إلى كيان في منزله، فاستغرب كيان من هذه الزيارة لقلة من يزورونه بسبب عجرفته طبعًا، ولكن العم صالح لا يُقال له لا. دخل العم صالح مجلسه بتحية:
العم صالح: السلام عليكم ورحمة الله يا بني.
كيان: وعليكم السلام يا عمّي، زمان طويل عن هذه الزيارة، خير يا عم!
العم صالح: خيرًا يا ولدي، أول شيء ما تضيّفني قهوة على الأقل؟ أنا جايك في موضوع وإن شاء الله ما يزعجك وجودي.
كيان: طبعًا، حيّاك الله يا عم. دقائق وتكون جاهزة. ذهب ليخبرهم بتحضير القهوة وعاد إلى العم صالح.
العم صالح: أنا جئتك اليوم ويؤسفني ما سمعت. أنت تعرف الآية التي تقول: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ ؟
كيان: أكيد يا عم.
العم صالح: لا تقاطعني إلى أن أكمل حديثي. مجالس الرجال لا بد أن تكون عامرة بالخير والبركة، وقلوبنا أوطان، والوطن يجمع لا يفرّق يا بني. لا تعامل الشخص إلا باحترام، فهذا يدلّ على أصلك وتربيتك. عامل الجميع دون استثناء، لا تفرّق وتقول: هذا يستحق وهذا لا. ولا تعامل الناس بمزاجك، فكل واحد يكفيه ما يمرّ به. كن ودودًا ولا تنفّر الناس منك بسلاطة لسانك بحجة مزاحك، فمزاحك يا ولدي يجرح ولا يداوي. لا تمزح لتضحك الجميع في سبيل جرح أحدهم.
كيان: هل سمعت شيئًا يا عم صالح؟
العم صالح: نعم، الكثير، ويؤسفني ما يطال ابن أخيك عدنان، فهو يتيم ويحتاج حبك وحنانك واحتواءك، لا النفور منك بسلاطة لسانك وعجرفتك معه.
كيان: هل اشتكى لك؟
العم صالح: للأسف لم يشكُ لي، وليته تكلّم، ولكن وصلني الخبر.
كيان: والله يا عم صالح هذه معضلتي ولا أستطيع تغييرها حتى تُعجب عدنان أو غيره. أنا عمّه والمفروض يتحمّلني بكل عيوبي.
العم صالح: وهذا العيب لا بدّ له من إصلاح. غدًا لديك حساب وعقاب ومحكمة الله التي سيجد فيها كل مظلومٍ عدله، فتسلّح من الآن يا ولدي. لا تكن ظالمًا فتحرم من شمّ ريح الجنة ولا راحة الدنيا، فسخط الله على عباده الظالمين شديد.
كيان: ماذا أفعل يا عم وهذه معضلتي؟!
العم صالح: كل مشكلة ولها حل، المهم قناعتك، والله يحبّ التوّابين.
كيان: أبشر يا عم صالح بالخير والذي يسرك.
رقّ قلب كيان من كلام العم صالح، فرفع هاتفه ليُخبر العائلة بتجمّعٍ فريد من نوعه قبل يوم الجمعة المعتاد في بيت العائلة، وحرص على تواجد الجميع نساءً ورجالًا، مما أثار استغراب الجميع. استعدّ الجميع بما فيهم عدنان وأخواته ووالدته، مما جعل والدة عدنان تفكر في هذه الفرصة لخطبة ابنها عدنان من ابنة عمه شهد. فاتحت عدنان في الموضوع، لكنه أجابها بأنّ عمّه كيان سيرفض لأنه يكرهه بلا سبب، ومن المستحيل أن يقبله زوجًا لابنته، فقرّر تأجيل فتح الموضوع.
ذهب الجميع لهذا التجمّع، وأثناء الاجتماع دخل كيان متأخرًا قليلًا، مما أثار قلق جابر من ردّة فعل عمه. دخل كيان المجلس مسلّمًا على الجميع، وقال: أرجو انتباه الجميع قليلًا. ساد الصمت المكان وأكمل حديثه: عدنان أنت ولدي وحزام ظهري وسندي في مشيبي، فالعمّ والد، وسامحني إن ضايقتك بمزاحي، فأنت ابن أخي وأعلم أنّك شكوت له مني كثيرًا، وأعرف حجم عتبه عليّ، الله يرحمه. بكى العم كيان وأبكى الجميع، وأخذ عدنان بالأحضان، فكان يومًا لا يُنسى.
وبعد مرور شهر تقريبًا من هذا المنعطف في حياة عدنان جاء يوم سعده، يوم زواجه أخيرًا من زوجة أحلامه شهد ابنة عمه كيان، فأصبح ذاك المتسلّط أبًا روحيًا لعدنان وقائد مسيرته.
ليس عليك أن تكون متعجرفًا لترضي من حولك وتغضب خالقك؛ فقلوب الناس أوطان تحتاج أن تُروى بالمحبة وتُغدق بالعطف لتستمرّ بعطائها وتكمل قصتها، لتخرج من هذه الدنيا مكلّلةً بالرحمة الإلهية. فقط كن ودودًا، فالودّ ليس صعبًا.