الشيخ غالب بن حسن آل حماد: قامة قضائية ومجتمعية
حين يُذكر العدل مقرونًا بالحكمة، والفقه ممتزجًا بالرحمة، والتواضع مصحوبًا بالحضور المؤثر، يتبادر إلى أذهان أبناء القطيف والمنطقة الشرقية اسم الشيخ غالب بن حسن آل حماد؛ رجلٌ ليس كغيره في بساطته، ولا كمثله في عمقه، ولا كنظرائه في تأثيره.
إنه شخصية فريدة اجتمعت فيها ملامح الوقار القضائي، وصفاء النية الإصلاحية، ودفء الإنسان الذي يعيش لأجل الناس لا فوقهم. لا تراه إلا مصلحًا، ولا تسمعه إلا ناصحًا، ولا تقترب منه إلا وتدرك أنك أمام شخصية نسجت نفسها من خيوط العلم، والعقل، والخلق.
نشأ الشيخ غالب في بيت علمٍ وتقوى، وكانت ملامح النبوغ الفكري واضحة عليه منذ صغره. لم يكن من أولئك الذين يسلكون الطريق السهل في العلم، بل اختار أن يتدرّج في مدارج الدراسة الحوزوية بدقة وصبرٍ وأناة، فانتقل بين الحواضر الدينية الكبرى: القطيف، الأحساء، النجف، قم، والكويت، ليغترف من ينابيع الفقه والأصول والمنطق.
نال إجازة اجتهاد من كبار العلماء، وهو ما يعكس مكانته العلمية بين أقرانه، ويمنحه صلاحية إصدار الأحكام الشرعية والاجتهادية، وهي درجة لا يصل إليها إلا من جمع بين التبحّر، والتأصيل، والتقوى.
لكن التكوين العلمي للشيخ غالب لم يتوقف عند العلوم الشرعية، بل اتسع ليشمل البُعد الاقتصادي الأكاديمي، حيث حصل على بكالوريوس في الاقتصاد من جامعة الملك سعود، وهو ما شكّل له أداة إضافية لفهم قضايا الناس الاقتصادية والاجتماعية من منظور فقهي واقعي، يراعي توازن النص والواقع.
في ديسمبر 2005، صدر قرار ملكي كريم بتعيينه قاضيًا رسميًا لمحكمة الأوقاف والمواريث في القطيف. وقد جاء هذا التعيين تتويجًا لرحلة طويلة من التأهيل الشرعي والانخراط المجتمعي، وكان موضع ترحيب واسع من الأهالي، الذين رأوا فيه الشخص المناسب في المكان الحساس.
لاحقًا، وعند غياب القاضي الشيخ محمد الجيراني رحمه الله، أُسندت إلى الشيخ غالب مهمة إدارة المحكمة بشكل جزئي بين عامي 1438 هـ و 1439 هـ، رغم أنه كان يباشر العمل ثلاثة أيام فقط في الأسبوع، إلا أن وتيرة الإنجاز لم تتأثر، بل فاقت التوقعات.
أبرز إنجازاته خلال تلك الفترة:
• 4625 عقد نكاح موثّق
• 1052 حالة طلاق
• 1356 صك حصر ورثة
• 55 صك إثبات زوجية وأبناء
• 20 حالة رجعة بعد الطلاق
هذه الأرقام تمثّل مئات الأسر، وآلاف الأفراد، ومواقف إنسانية لا تُعد ولا تُحصى. كل ورقة من هذه الأوراق كانت تُدار بروح من الحزم المُتزن، والرحمة العاقلة، والتفهم العميق لأحوال الناس.
الشيخ غالب لم يكن قاضيًا تقليديًا يُصدر الأحكام من وراء الطاولة. بل كان يرى القضاء مسؤولية روحية وأخلاقية، قبل أن يكون سلطة إدارية.
من سماته القضائية:
• جلسة لكل حالة: لا يمر عقد نكاح أو طلاق أو إثبات نسب دون مقابلة شخصية مباشرة، يتقصى فيها النوايا، ويحاول الإصلاح قبل الإجراء.
• انضباط ونزاهة: لا يتأثر بالعواطف أو الضغوط الاجتماعية، ويُعرف عنه استقلاليته الصلبة، ورفضه لأي تجاوز للقانون أو الأخلاق.
• تفهّم للأوضاع الشخصية: يولي قضايا النساء، وكبار السن، والأسر المتعثرة اهتمامًا خاصًا، ويُوازن بين القانون والرحمة.
لقد فهم الشيخ غالب أن الناس لا يقفون أمامه كملفّات، بل كأرواحٍ تبحث عن العدالة والأمان. لذلك كانت قاعته القضائية مساحة للطمأنينة قبل أن تكون منصّة للفصل.
الشيخ غالب بن حماد لم يكن قاضيًا منعزلًا خلف أوراقه، بل ظلّ جزءًا حيًّا من المجتمع بكل أطيافه. شارك في المجالس العامة والخاصة، استجاب للدعوات من الصغير والكبير، وحرص على أن يكون حاضرًا في مناسبات الإصلاح، والدعوة للخير، وحلّ النزاعات.
وقد عُرف عنه قوله:
”كل من يدعوني، فقد دعاني إلى واجب، لا إلى تفضّل“.
هذه العبارة لم تكن مجرّد مقولة، بل سلوك دائم ترجمه في حضوره المتواضع، وتفاعله العفوي، وحرصه على بناء الجسور مع الجميع دون تفريق.
في مراحل الاحتقان الطائفي التي مرّت بها بعض مناطق المملكة، لم يتردد الشيخ غالب في اتخاذ مواقف جريئة ومسؤولة. كان من الموقعين على بيان علماء الأحساء والقطيف عقب جريمة الدالوة، داعيًا فيه إلى الوحدة الوطنية، ورفض الكراهية، وتقديم مصلحة الوطن على أي انتماء آخر.
كما دعم مبادرة إنشاء مجلس قضائي مشترك يضم علماء من مختلف المذاهب، إيمانًا بأن:
”القضاء مسؤولية تكامل، لا ميدان خصومة“.
هذا الخطاب العقلاني جعله محل احترام في الأوساط الدينية والاجتماعية المختلفة، وكرّس صورته كرجل تسامح ووحدة.
لم يكن الشيخ غالب حاضرًا في ساحات القضاء فقط، بل كان ركيزة ثابتة في العمل الخيري. فقد كان من أبرز الداعمين لجمعية تاروت الخيرية، من النواحي المالية، الاجتماعية، والإنسانية.
وقد شارك بدور فعّال في تقديم المشورة للإدارة، وكان له تأثير مباشر في توجيه القرارات، وتقييم البرامج، وتطوير المبادرات.
ولم تكن مساهماته مادية فقط، بل كانت فكرية ووجدانية، نابعة من إيمان حقيقي بكرامة الإنسان وحقه في العيش الكريم.
وقد أجمع القائمون على الجمعية والمتطوعون والمستفيدون، على أنه من الأعمدة التي بُنيت عليها ثقة المجتمع في هذه المؤسسة.
في زمنٍ تتعدد فيه الأصوات وتختلط فيه النماذج، يظل اسم الشيخ غالب بن حسن آل حماد قيمةً ثابتة في ذاكرة القطيف والشرقية؛ لا لأنه شغل منصبًا، بل لأنه عاش دوره بصدق، وأدى أمانته بشرف.
لقد مثّل القضاء بروح العدل، وخدم المجتمع بروح الأب، وساهم في العمل الخيري بروح الإنسان المؤمن بقيمة العطاء.
هو شخصية حين تقترب منها، تجد الحكمة دون تعقيد، والتواضع دون تصنّع، والهيبة دون خوف.
الشيخ غالب حماد لم يُمارس العدالة، بل جسّدها. لم يكن جزءًا من السلطة فحسب، بل كان ملاذًا للناس، وملهمًا لكل من أراد أن يرى القضاء وجهًا إنسانيًا مضيئًا.
وباسم كل من عرفه، أو سمع عنه، أو وقف أمامه في قاعة المحكمة، أو تلقّى منه نصيحة، أو ابتسامة، نقول:
فخر لنا أن يكون بيننا رجل مثل الشيخ غالب حماد… قاضٍ عادل، ومصلح حكيم، وإنسان عظيم.