آخر تحديث: 3 / 8 / 2025م - 11:28 م

إذا كرهتني… لا تكره فكرتي!

عبد الله أحمد آل نوح *

في زمنٍ تتسارع فيه الكلمات أكثر من الخطى، ونُبدي الرأي قبل أن نُمعن النظر، باتت ظاهرة تسفيه الرأي لمجرد صدوره من شخص لا نحبه علامةً مؤلمة في علاقاتنا الاجتماعية والثقافية. لم نعد نقف عند مضمون الفكرة أو وجاهة الطرح، بل بتنا نُقوّم القول بميزان صاحبه، فإن كان ”فلان“ الذي لا نرتاح إليه، سارعنا إلى النفي والرد وربما التهكم، وإن قالها ”فلان“ الآخر، المُحبب إلى قلوبنا، هللنا ورحّبنا وصنعنا من رأيه حكمةً لا تُرد.

هذه الظاهرة التي قد لا تُقال صراحة، لكنها تُمارس بصمت جارح، تركت أثرًا بالغًا في نفوس الكثير من الناس. بعضهم قرر الانسحاب بصمت، وآخرون باتوا يتجنبون الحديث أو إبداء الرأي حتى في أبسط القضايا. فليس أسوأ من أن تُهمَّش فكرتك لا لضعفها، بل لأنك لست ”مرغوبًا“ فيك ممن يسمعك. بهذا الأسلوب، نخسر الأفكار الجيدة قبل أن تولد، ونطرد العقول الراجحة من ساحات النقاش، فقط لأننا لا نحب من يتكلم.

والمؤلم أن هذا التهكم لم يقتصر على الآراء العامة، بل امتد إلى المشورة الخاصة. فهناك من الأشخاص من لا يمكن أن تستشيره أو تسأله عن أمر إلا ويُبادر إلى الانتقاد، لا لشيء، بل وكأن هدفه إثبات أنك مخطئ بأي حال. تسأله عن قرار اتخذته، أو تخبره بتصرف قمت به، فتفاجأ بسيل من التوجيهات المتأخرة، تبدأ بعبارة ”كان المفروض أن تفعل كذا“، و”كان الأجدر بك أن تقول كذا“. حتى لو كان ما قمت به مقبولًا أو معقولًا، لا بد أن يجد فيه ثغرة ينفذ منها ليؤكد لك أن ما فعلته كان خاطئًا. مع تكرار هذه المواقف، يبدأ الإنسان في تجنّب طلب النصح من أمثال هؤلاء، لأنهم لا يقدّمون مشورة، بل يُمارسون نوعًا من النقد الذي يُطفئ الهمّة، ويُفقد الثقة.

إن ما نراه اليوم من جفاءٍ وردودٍ متعالية وسخريةٍ مبطنة أو علنية، ليس اختلافًا فكريًا ناضجًا، بل هو لون من ألوان التعدي على حرية التعبير، وغلبة الأهواء الشخصية على معايير النقاش العادل. ولا شك أن هذا السلوك يشكّل بيئة طاردة للعقلاء، ويزرع في النفوس مرارة الصمت والانكفاء.

ومن المؤسف أن بعض الأشخاص قد اعتادوا تصيّد الزلات، وتحويل أي رأي إلى ساحة مواجهة، لا لغرض التصحيح أو النفع، بل فقط لإثبات التفوق أو تسجيل الانتصار، وكأن الرأي ”مباراة“ يجب أن تنتهي بفائز ومهزوم.

لعلّ أول الحلول هو التحرر من عبودية الأسماء والأشخاص، والنظر إلى الرأي ك ”رأي“، بغضّ النظر عن قائله. ألم يقل الإمام علي : ”انظر إلى ما قيل، ولا تنظر إلى من قال“؟ إن الإنصاف يقتضي أن نزن كل فكرة بميزانها، لا بميزان محبة أو كراهية صاحبها. بل إن الاختلاف مع من لا نحب لا يمنحنا ترخيصًا بتسفيه آرائه، فكم من شخص لا نرتاح إليه قد يحمل في جعبته حكمة، وكم من حبيب قد يخذلنا برأي سطحي أو عابر.

أما ثاني الحلول، فهو نشر ثقافة ”النقاش الرحيم“، الذي يراعي مشاعر الآخرين ويستحضر النية الصادقة لا الغلبة. فإذا لم يعجبك الرأي، انتقده بلطف، وناقشه بحجة، وتذكّر أنك تردّ على فكرة لا على شخص. وإذا أعجبك، فلا تتردد في الإشادة به، ولو كان قائله خصمًا لك بالأمس. النبل في النقاش دليل وعي، والاعتراف بفضل الآخر لا يُنقص من مكانتك شيئًا.

وأخيرًا، علينا أن نُعيد بناء المساحات الآمنة في الحوار، حيث لا يُخشى فيها الرد ولا يُهاجم فيها المتكلم، ليكون رأيه محل نقاش لا ساحة حرب. فبغير ذلك، لن نبني فكرًا ولا نُنتج رأيًا، بل سنبقى أسرى المشاعر الضيقة التي تسجن العقل وتُميت الحكمة.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
زكريا أبو سرير
[ تاروت ]: 3 / 8 / 2025م - 11:03 م
بوركت اناملك الطيبة و المباركة ابا احمد، كما نحن محتاجون للتبشير بمثل هذه الثقافة العقلانية و المتزنة التي تبني مجتمع يسوده العقل الرشيد و الرأي السديد، دمتم موفقين ومباركين.
عضو مجلس المنطقة الشرقية ورجل أعمال