آخر تحديث: 3 / 8 / 2025م - 11:28 م

الذكاء الاصطناعي ومستقبل البشرية

عبد الرزاق الكوي

عالم التكنولوجيا واسع ومتشعّب بما يمثل من قوة دافعة لتغييرات كثيرة في حياة البشرية. يعتبر الذكاء الاصطناعي من أبرز ما أنتجته التكنولوجيا، وما توصل إليه العقل البشري، وهو من أحدث ما ابتكره العقل البشري في العقود الخمسة الأخيرة من القرن العشرين، ليصبح ليس مجرد تقنية مستقبلية، بل هو حاضر يغيّر الحياة اليومية بشكل كبير ومتزايد للصغير والكبير كلٌّ يأخذ حاجته ومتطلباته، ويبني علاقة صداقة أكثر حميمية من أي صداقات أخرى. كثيرٌ من أعمال الذكاء الاصطناعي كانت من الخيال العلمي، والآن صارت واقعًا بين اليد.

يقوم الذكاء الاصطناعي بوظائف مختلفة، ودخل في استخدامات كثيرة أنتجت عالمًا من الراحة والتطور، سهلت الحياة، وقرّبت البعيد، ودخلت في مجالات مهمة بالعناية براحة الإنسان مثل الطب والترجمة والتعليم والصناعة والنقل والمواصلات والاتصالات، وإدارة المستشفيات والمصانع والشركات، والمنازل الذكية، وتقنية المعلومات، وقيادة السيارات والطائرات، وخدمات مصرفية متعددة، والإعلام. ويُستفاد منه في مجال التنبؤ بالأحوال الجوية، بل التعرف على الحالة المزاجية والتفاعل معها، وترشيح ما تفضّل أكله أو سماعه أو مشاهدته، ما يناسب ذوقك وملابسك، وغيرها الكثير من المزايا التي لا تُعدّ ولا تُحصى. والقادم بكل تأكيد أكثر وأوسع. المقياس اليوم في التقدم هو التعامل مع هذا المنتج الاستراتيجي المهم في الحياة اليومية وتطور المجتمع، ليواكب هذا التطور فيما يُستفادُ منه.

كل ما سبق جميل ومفرح، وواقع من السعادة تعيشها البشرية؛ هل انتهى الأمر؟ في الواقع شيء آخر. كما أن الذكاء الاصطناعي قدّم للبشرية ما تتمناه من التقدم والازدهار، هناك وجه آخر لهذا الذكاء، وليس العيب في الذكاء الاصطناعي، بل في من يستغل هذا المنتج الراقي في استعمالات تلحق الضرر بالبشرية. وتحويل ما أنعمه الله تعالى من نعمة العقل والابتكار إلى استخدام هذا الذكاء في التدمير بدلًا من البناء، الحرب بدلًا من السلم. كل يوم تسمع البشرية أسماء متعددة للحروب والأسلحة الفتاكة المرتبطة باستخدامها بالذكاء الاصطناعي. كأنّما العالم ما ينقصه إلا السلاح، رغم أن ما يوجد من سلاح قادر على فناء الأرض ومن عليها عشرات، إن لم تكن مئات المرات. فالعقل إذا نزعت منه الرحمة، وسيطرت عليه الكراهية والفكر المهيمن، يجعل البشرية تعيش الخوف والقلق والمجاعات والموت بطرق متعددة، وبأسلحة مختلفة قد تكون صغيرة في حجمها، عظيمة في أضرارها وسعة ما تدمر. أصبح الذكاء الاصطناعي اليوم العلامة الفارقة، المسيطر على الأرض والبحر والفضاء. انتهت الصراعات التقليدية، رغم ما سببته من أعداد هائلة من القتلى، والدمار الشامل، وهدم البنية التحتية، وتدمير البيئة والاقتصاد. اليوم الذكاء الاصطناعي أكثر قتلاً، وأشمل فناءً؛ تصل الأسلحة إلى أبعد الأماكن بكل دقة، لتختار من تقتل، وتدمر أحياءً بكاملها.

الحروب الحاضرة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، والمستقبل في ظل التسارع المستمر لا يبشر بخير، بل بمزيد من الحروب المدمرة واستنزاف خيرات العالم، بمزيد من القتل. لم يكتفِ العالم من الحربين الأولى والثانية؛ ذهب بسببها الملايين من الأبرياء، ودُمرت اقتصادات وبُنى تحتية. الفكر المنحرف يتجه إلى مستويات أكثر وحشية في علاقاته. العالم اليوم يعيش في أسوأ حالاته من حروب أنتجت مزيدًا من تردّي الاقتصاد، وولدّت الفقر والمجاعة، وتفشّى الفساد ليزيد استغلال الذكاء الاصطناعي حياة البشرية مأساوية، بدلًا من استغلال هذا المنتج المفيد في حياة أكثر راحة للبشرية.

اليوم يُستغل الذكاء الاصطناعي لتصبح الأسلحة أشدّ فتكًا، وأسرع وصولًا، وأكثر دقة، عابرة للقارات، عالية الجودة، عظيمة الخطورة، وقوية التدمير. لم يسلم من خطرها أحد، ويذهب بسببها أبرياء لا ناقة لهم ولا جمل في حروب عبثية شريرة. لم يسلم من فرط شرورها حتى الملاجئ الآمنة والأماكن المحصنة. هذا، عندما يسلم الإنسان قراراته بيد الآلة الذكية، تحدث الأخطاء الكثيرة، ويفقد الدقة أحيانًا، فتصبح الحرب ليس عامل حسم، بل عامل إبادة ودمار شامل، حيث تعمل بلا مشاعر، فعلى الدنيا السلام.

الحرب اليوم مع الذكاء تركيبة يستخدم فيها خليط من الأسلحة، والأدوات، والتكنولوجيات، والتكتيكات، والاستراتيجيات، وغيرها من المسميات، بالاستفادة من الذكاء الاصطناعي. تنتج أسلحة صالحة للمكان والزمان والظروف، من أهداف محدودة إلى تجمعات كبيرة؛ يستخدم فيها القوة على نطاق الساحة الأرضية والبحرية والفضائية.

تتجه البشرية إلى الحضيض ومنحدرات كبيرة من التخلف في ظل هذا السباق المحموم. فالقوى العالمية تأخذ البشرية إلى مسار آخر: ذهاب بلا رجعة، وخروج بلا عودة، يترحم فيه الإنسان على ما سبق من حروب كانت مواجهات تقليدية حدودية. اليوم آلاف من أسماء الأسلحة بلا رحمة تفتك يمينًا ويسارًا، برًا وبحرًا وفضاءً، ليس لها أبعاد تقف في وجهها. انعدم فيها الوازع الديني، وانتهى في تفكيرها أيّ قيمة أو رادع قانوني أو بعد إنساني.

العالم لا يزال يحتاج إلى نعمة الذكاء الاصطناعي في الحد من الأمراض المزمنة والمستعصية، واكتشاف العلاج والدواء. والاقتصاد المتردّي عالميًا: ما يُنفق في الأسلحة المدمرة يكفي أن تعيش البشرية كافة نعمة الأمن والأمان والحياة الكريمة. فالعالم اليوم يغزو الفضاء، وتسيطر على البحار والمحيطات، والأرض تضج بالمجاعة، وتُنتهك كرامتها، وتسلب حقوقها، وتلوّث بيئتها، ويدمّر مناخها. بسباق محموم، كل برنامج للذكاء الاصطناعي يحتاج ما يُعادله أو يُكافحه ويتغلب عليه، مما يولّد مزيدًا من الانفلات واختلال التوازن العالمي. وبالطبع هناك أسلحة متكتمٌ عنها، وأسلحة قيد التجربة؛ كلا يفاجأ الآخر بدمار أكبر وأشمل وأشدّ فتكًا.

فكم مستشفى يُبنى مقابل ما يُنفق على الصواريخ العابرة للقارات؟ وكمّ غذاء يوفر ثمن حاملة الطائرات التي تجول في المحيطات؟ وكمّ سوف توفر القنابل من مساكن من يسكّنون العراء؟ وغيرها من الأسلحة والمصانع والمختبرات.

نسأل الله تعالى أن يكشف هذه الغمة عن هذا العالم المبتلى، بمن ينقذه من ظلم الإنسان للإنسان إلى عالم من الرحمة والحياة الكريمة. اللهم عجل للعالم الفرج، وارحم العالم من كلّ همّ وغمّ.