صوتٌ في البرية... أم يدٌ في البناء؟
عن الكلمة حين تتحوّل من تشخيص العطش إلى حفر البئر.
تصل الكلمات أحيانًا كأمواج هادئة تداعب الشاطئ، وأحيانًا أخرى تأتي كصفعة توقظك من سباتٍ عميق. بعد نشر مقال ”حين يُطلب من الكاتب أن يسبح... في غياب البحر“، كنت أراقب صدى الكلمات وهي ترتطم بأرواح القرّاء. كانت التعليقات منارة تضيء عتمة الحوار، حتى توقفتُ أمام تعليقٍ واحد. تجمدت أصابعي فوق لوحة المفاتيح، وتوقفت حركة الزمن للحظة. لم يكن تعليقًا عابرًا، بل كان مرآةً صقيلة وُضعت أمامي فجأة.
كتبت الأستاذة ليلى حسين:
”الطرح رائع وأتمنى لو تبادر الكاتبة نفسها بإنشاء منصة تدريبية. ليش ما نتحولين من ناقدة للمشهد إلى جزء من الحل؟“
كان هذا السؤال بمثابة الدفعة التي تحتاجها الروح لتقفز من ضفة الأمان - ضفة النقد والتحليل - إلى خضمّ أمواج الفعل المتقلّبة. أن تكون ناقدًا للمشهد هو دور مريح نسبيًا؛ أنت تقف على التل، تصف المعركة، وتشير إلى الأخطاء التكتيكية. لكن أن تكون جزءًا من الحل يعني النزول إلى أرض المعركة، التلطخ بغبارها، تحمّل عبء المسؤولية، ومواجهة احتمالية الفشل.
قال نيتشه ذات مرة:
”من يملك سببًا للعيش، يمكنه تحمّل كلّ شيء تقريبًا.“
وربما من يملك سببًا للكتابة، عليه أن يتحمّل تبعاتها. فالكلمة مسؤولية، وليست رفاهية.
”نحتاج روادًا يؤمنون بالكتابة كعلم، لا كمزاج أو موهبة.“
هذه الجملة ليست رأيًا، بل دعوة لإعادة تعريف دور الكاتب في هذا العصر.
الانتقال من اعتبار الكتابة مجرّد فيض من المشاعر، إلى رؤيتها ك ”صناعة“ لها أدواتها، و”بناء“ له هندسته، هو التحوّل الجوهري.
تمامًا كما وصف سقراط الفلسفة بأنها ”تدريب على الموت“، فإن الكتابة الجادة هي تدريب على الحياة - على خوض معاركها، على مقاومة العجز، وعلى الإيمان أن الفكرة يمكن أن تبني جسرًا لا يعبره كاتبٌ وحده، بل أمةٌ كاملة.
دورنا لا يكتمل عند إثارة السؤال، بل يبدأ من هناك.
أن نتحول من التنظير إلى التطبيق، من الإلهام إلى منصات، ومن تشخيص العيوب إلى إطلاق مبادرات.
لكن هل يكفي أن نُلهم؟ هل يكفي أن نُشجّع؟
أليس التغيير الحقيقي يتطلّب منّا أن نمدّ أيدينا لما بعد الكلمات، أن نخلق البيئة، والفرصة، والدعم؟
لم يعد السؤال ”أين البحر؟“، بل ”كيف نبنيه؟ بأي أدوات؟ ومع من؟“
كان تعليقًا واحدًا، لكنه كان كافيًا لقلب الطاولة على الذات.
تذكيرٌ بأن أعظم مسؤولية تقع على من يمتلكون الرؤية واللغة، هي مسؤولية التحرك أولًا.
ربما حان الوقت لنتوقف عن المطالبة بالبحر، ونبدأ في تشييده معًا.
فكل موجة عظيمة... بدأت بقطرة واحدة تحرّكت.
لكن يبقى سؤال أخير:
وهل كل من يريد أن يكون جزءًا من الحل، يصلح أن يكون سببًا فيه؟
ربما لهذا تساءل جان بول سارتر:
”هل يكفي أن تكون لديك النية الطيبة، أم أنك مسؤول أيضًا عن نتائج أفعالك؟“
— من كتاب: الوجودية مذهب إنساني