آخر تحديث: 3 / 8 / 2025م - 11:28 م

خذ إن كنت محتاجًا

رضي منصور العسيف *

في زاوية قسم الطوارئ، لفتت نظري ثلّاجة صغيرة تفيض إنسانية، بداخلها عبوات ماء مرتّبة بعناية. شعرت بالامتنان، وقلت في نفسي: جزى الله خيرًا من وضعها صدقةً جارية تروي عطش المحتاجين وتنعش قلوبهم في لحظة شدة.

لم تمضِ سوى لحظات حتى رأيت أحد العاملين يمد يده، يأخذ عبوة بهدوء ويرحل. تبسّمت، فما زال الخير يُستثمر في موضعه.

لكن سرعان ما أقبل شاب مفتول العضلات، أخذ عبوة أخرى، ثم تبعته ممرضة حملت عبوتين دفعة واحدة، وكأن الأمر لا يعنيها إلا أنها فرصة للحصول على ماءٍ مجاني.

وفي خضمّ ذلك، ركض طفل صغير نحو الثلاجة بفرحٍ طفولي، أخذ عبوة ماء، وحين فتحها انسكب نصفها على الأرض، فأصبحت الأرض مبتلة بالماء. نظرتُ إلى والدته التي وقفت بجواره، فإذا بها غير مكترثة، وكأن شيئًا لم يحدث، واكتفت بمتابعة هاتفها، تاركةً ماءً كان يمكن أن يروي عطش محتاج يتسرّب هدرًا إلى الأرض.

كنت أراقب المشهد وأتساءل في حيرة:

أهي ثلّاجة خُصصت للعطشى من المرضى والمرافقين المحتاجين؟ أم أصبحت مفتوحة للجميع بلا وعيٍ بمعناها الحقيقي؟

مرّت ساعة واحدة، وإذا بالثلّاجة قد فرغت تمامًا، كأنها لم تكن مملوءة قبل قليل!

وفي تلك اللحظة، جاء رجلٌ مسنّ يتكئ على عصاه، فتح الباب الزجاجي ونظر داخله… فإذا به خاوٍ لا يحوي شيئًا. تمتم بصوتٍ مبحوح:

— ثلاجة بلا ماء… ما هذا؟!

كان صوته ممزوجًا بخيبة الأمل والظمأ.

سمع شابٌ هذا الكلام، فتقدّم إليه بخطواتٍ واثقة، وقال بأسف:

— كانت ممتلئة قبل قليل، لكن بعض الناس بسوء تصرّفهم جعلوها فارغة.

ثم مدّ يده إلى حقيبته، وأخرج قارورة ماء كان يحتفظ بها لنفسه، وقدّمها للرجل العجوز بابتسامة صادقة.

وقف أحد الحاضرين يتأمل المشهد، وقد أثّر فيه ما رأى من أنانية البعض وكرم الآخر. ترك المكان بهدوء، وعاد بعد دقائق يحمل كرتون ماء كبيرًا. فتح الثلّاجة الفارغة، رتّب العبوات داخلها واحدةً تلو الأخرى، ثم أخرج ورقة وكتب عليها بخطّ واضح:

”خذ عبوة إن كنت محتاجًا… فقط.“

وبينما كان الجميع يراقب المشهد بابتسامة رضا، حدث ما لم يتوقّعه أحد…

اقتربت امرأة مسنّة على كرسي متحرك، يرافقها ابنها، فأشارت إلى العبارة المعلّقة على الثلّاجة وقالت بصوتٍ مرتجف:

— يا بُني… أتذكر والدك؟ كان هذا آخر عمل قام به قبل وفاته… لقد كان هو من تبرّع بالثلّاجة!

ساد المكان صمت مهيب، امتزجت فيه الدهشة بالعاطفة، واغرورقت عيون الحاضرين بالدموع. كان المشهد كأنه رسالة من السماء: أن أثر الخير لا يموت، وأن الصدقة تبقى شاهدة على روح صاحبها، تروي العطاش حتى بعد رحيله.

ارتسمت على وجوه الجميع ملامح التأثر، وكأن القلوب تردّد في سرّها: ما أعظم العطاء حين يكون صدقة جارية تُحيي ذكر صاحبها بالخير إلى يوم يبعثون.

كاتب وأخصائي تغذية- القطيف