آخر تحديث: 6 / 8 / 2025م - 2:20 ص

جِمّ الأخلاق

سراج علي أبو السعود * سراج ابو السعود

كما أن الرياضة تصقل الجسد وتمنحه العافية، فإنّ الأخلاق تحتاج إلى تمرينٍ يومي لا يقلّ عنها أهمية، بل قد يكون أشد ضرورة. الكلام سيكون إنشائيا حينما نقول أن هناك من يرتاد الصالات الرياضية ليبني عضلاته، ولكن كم منّا يرتاد ”صالات الأخلاق“ ليُنمّي فضيلته؟ الأمر الذي ينبغي الإشارة إليه بعيدا عن ذلك أن بعض من يُفترض فيهم العمق العلمي أو الوعي الثقافي، يروّجون لمفاهيم مختلّة على أنها أخلاق فاضلة، ويدافعون عن مغالطات فكرية وكأنها قواعد للتفكير السليم. وبذلك، يتحوّلون - من حيث لا يشعرون - إلى نماذج للرجعية وهم يتوهّمون أنهم روّاد التنوير. قد يرى بعضهم في هذا الوصف شيئًا من القسوة، وربما ظنّه هجوميًا أو غير مبرّر، غير أنني أراه توصيفًا صادقًا، خاليًا من مساحيق التجميل الفكرية، يكشف ما تُخفيه العبارات المزخرفة من انتكاسات ذهنية تُقدَّم على أنها فضيلة.

في كل علم، تُبنى الأحكام - نفيًا أو إثباتًا - على معايير وضعها أهل الاختصاص، وقد يُتّفق أو يُختلف حولها، لكنّ الأصل فيها أن تخضع للتحليل والدليل والبرهان. غير أن بعض النقّاد يتعجّل الحكم، وكأن غايته ليست الفهم بل الاعتراض. وهنا يظهر الخلل الأخلاقي: فالمعارضة لا تنبع من ضعفٍ في ما طُرح، بل من صدمة النصّ لما ترسّخ في ذهن الناقد من مسلّماتٍ نشأ عليها. فيرفض لا لفساد الدليل، بل لمجرد أنه يختلف مع مألوفه. وهكذا يتحوّل النقد من ممارسة فكرية إلى غريزة دفاعية، ينهض فيها الناقد كمن يذود عن ”عادة فكرية“ اعتاد تسميتها ”حقيقة“، وربما لم تكن يوما كذلك. وتبدو هذه الحالة جلية حين يتهجّم الناقد على النصّ بلا تقديم مبررات عقلية واضحة. فإذا طالبته بالدليل، لجأ إلى ردود انفعالية، يروّج فيها لفكرة أنك تكمم الأفواه وتضيّق على التعبير، وكأن النقاش تحوّل من قضية فكرية إلى معركة شخصية. وهذا كما أراه أحد أشكال ”الهروب إلى الأمام“؛ حيث تُستبدل الحجة بالاتهام، ويُختلق مبرراً للرفض، ثم يُصدّق صاحبه أنه الحقيقة التي لا تقبل التشكيك.

چِمّ الأخلاق مركزٌ لا بد أن نداوم على زيارته. ومثلما نُربّي أبناءنا على ما نؤمن به من مبادئ وقيم، فإننا أحوج إلى أن نربّي أنفسنا، وننقّيها باستمرار. فالكمال الأخلاقي ليس محطة نبلغها، بل طريقٌ لا نهاية له، كلما سرنا فيه اتّسع أمامنا أكثر. أن نتعلّمه، ونتدرّب عليه، ونحسّن أداءنا فيه، ليس ترفًا بل ضرورة. وإذا توقّفنا عن السعي، فربما تضعف لياقتنا الأخلاقية، ونصبح أقل قدرة على مواصلة الركض في مضمار الفضيلة. لذلك، لا غنى لنا عن تدريب دائم على التأني في تقييم الآراء، والاعتماد على الحجة والبرهان في محاكمتها. فإذا توهّمنا أننا بلغنا قمة اللياقة الأخلاقية، فقد نقع في فخّ توزيع صكوك المنطق على من يوافقنا، وانتزاعها ممن يختلف معنا، وكأننا أصبحنا - من حيث لا ندري - معيار العقل والحقيقة.