آخر تحديث: 11 / 8 / 2025م - 11:23 ص

عندما تربكنا النجاحات

ياسين آل خليل

ليست الحياة مشروعًا يمكن تلخيصه في خطة خمسية أو ميزانية سنوية. إنها لا تُدار بالمسطرة، ولا تحترم الخرائط الذهنية التي نرسمها لأنفسنا كل صباح. كثيرون يظنون أنهم إذا أحكموا التخطيط، ضمنوا النتائج. لكن الحقيقة المفجعة تقول إن الواقع لا يكترث كثيرًا لتوقعاتنا. قد تتغير نقطة ارتكاز واحدة، فينهار كل ما بنيته بحساب دقيق. نحن جميعنا، ودون استثناء، نعيش على أرض رخوة، والمجريات أسرع من حساباتنا وأعند..!

نحن نخطط بناءً على معطيات نأمل أن تبقى مستقرة. نرتب خطواتنا كمن يمشي فوق أرض صلبة، غير مدرك أن تلك الأرض نفسها قد تكون لوحًا عائمًا في بحرٍ لا قرار له. وما أن تهتز معطياتنا بحدث، أو شخص، أو لحظة عابرة، حتى تتغير الحسابات، ويتحوّل اليقين إلى ارتباك. الخطورة ليست في التغيّر، بل في تمسكنا الأعمى بثبات لم يكن موجودًا من الأصل.

في زوايا الحياة، يظهر أشخاص يحدّثونك بثقة المدرّب الروحي، يبتسمون بثقل العارفين، ويظنون أن نجاحهم في زاوية ما هو تصريح بامتلاك الخلاص كله. نجح في عمل، أو التزم بنظام صحي، أو خرج من علاقة بجلده، فظن أنه ”وصل“. لكن الكمال ليس ما تراه في مرايا الإنجاز اللحظي، بل ما يختبره المرء حين تضطرب المرايا كلها. بعضهم يتعامل مع الحياة كما لو أنها لعبة بلا تحديثات، متناسين أن قواعد اللعبة تتغير والجميع نائمون.

ما نملكه حقًا ليس السيطرة، بل القدرة على البقاء واقفين في وجه عواصف لا نعرف مصدرها. النجاح الحقيقي ليس في التحكم بكل شيء، بل في التعاطي مع ما لا يمكن التحكم به. من لا يدرك أنه يسير وسط ضباب سيضيع، حتى لو حمل خريطة ذهبية. الحياة لا تكافئ المتفوقين في التنظيم فقط، بل أولئك القادرين على تعديل بوصلتهم متى تغيّر الاتجاه.

الخطأ لا يكمن في الحلم، بل في الظن بأن الحلم وحده كافٍ لتحقيق الواقع. كثيرًا ما نحمّل خياراتنا معنى أكبر مما تحتمل، ونفترض أن قراراتنا ستقودنا حتمًا إلى ما نشتهي، متناسين أن الحياة لا تسير بالنية وحدها، ولا بالمجهود المجرد. نحن نختار، نعم، لكننا لا نتحكم في كل ما يترتب على هذا الاختيار.

ما من خطة، مهما كانت متقنة، قادرة على ضمان النهاية التي رسمناها في أذهاننا. إن التعويل المطلق على حساباتنا الخاصة لا ينتج سوى خيبة مؤجلة. لذلك، فالنجاة لا تكون في إحكام القبضة، بل في قدرتنا على التراجع حين يلزم، والمراجعة حين يختل الاتجاه، والقبول حين لا يبقى في اليد إلا القبول.

في النهاية، لا أحد فوق الحياة. مهما بدا فهمك عميقًا أو نجاحك لافتًا، تظل خاضعًا لتقلباتها، عاجزًا عن امتلاك مفاتيحها. ما تراه اليوم يقينًا قد يغدو غدًا وهمًا. الحكيم ليس من يظن أنه وصل، بل من يدرك أن الثبات نفسه مؤقت، وأن كل ”وصول“ لا يعدو كونه محطة عابرة. امضِ بتواضع، وافهم أن الحياة لا تكرم من ظن أنه امتلكها، بل ترفق بمن يسير فيها بخفة المتعلّم، فالوعي الحقيقي لا يعلو، بل ينحني، لأن الأكثر فهمًا، هو من يدرك هشاشته.