آخر تحديث: 19 / 8 / 2025م - 8:30 م

ضياع المعنى في زحام الحياة

عبير ناصر السماعيل *


كان صوت نقرات لوحة المفاتيح يتسارع كأنّه يترجم توتري الداخلي، يتداخل مع رنين الهاتف الذي يصرّ على اقتحام اللحظة. المواعيد المؤجلة تتزاحم في ذهني، والمهام تتناوب على طرق أبواب عقلي. كنت أركض في الطبقة الأولى من وجودي: جسدٌ يلهث خلف الأرقام والدرجات، يحمل في داخله غضبًا خفيًا من نتيجة لم ترتقِ إلى سقف طموحي، ويجرّ وراءه قائمة مواعيد أعيد ترتيبها وألغيها في حلقة لا تنتهي.

عندما خرجتُ من مكتبي، كنتُ أحمل في داخلي حيرةً لم أشعر بها من قبل. للمرة الأولى، لم يمنحني العمل شعور الرضا أو السعادة الذي لطالما وجدته في زخم إنجازاتي. كانت هناك فراغاتٌ في الروح لم تملأها الأهداف المادية، ولكنني لم أكن أدرك حقيقتها بعد. وكما يقول الفيلسوف النمساوي فيكتور فرانكل في كتابه ”الإنسان يبحث عن المعنى“: ”الإنسان الذي يمتلك لماذا يعيش من أجلها، يستطيع أن يتحمل أي كيف“. كنت أمتلك ”الكيف“ في يومي، لكن ”اللماذا“ كان مفقودًا.

جلستُ خلف مقود سيارتي، أندمج في زحمة السير الخانقة. أبواق السيارات تتعالى، أضواء المكابح تومض وتختفي في رتابة مملة، وكل شيء يتحرك ببطءٍ قاسٍ. في تلك اللحظة، رنّ هاتفي. كان صوت أبي يحمل خبرًا كالصاعقة. اهتز صوته في أذنيّ، وشعرتُ وكأن الزمن انكمش فجأة، حتى توقف كل ما حولي.

تلاشت أبواق السيارات، اختفى الزحام، وغابت الأضواء. أصبحتُ وحدي على الطريق. عند خبر الوفاة، انشقت طبقة الجسد عن طبقة أعمق: الوجدان، حيث الصراع بين اليأس والصبر. ومع كل لحظة صمت بعدها، كانت الروح — الطبقة الثالثة — تلوّح لي من بعيد، تذكرني أن المعنى لا يقاس بما نفقده من مهام، بل بما نرجع به إلى الله.

فقد كل شيءٍ معناه. الواجبات، الدرجات، العمل، المواعيد... كل تلك الأشياء التي كانت تستهلك طاقتي، تحولت إلى مجرد سراب. الآن، في هذه الساعة المتأخرة من الليل، عقلي لا يستوعب ما حدث. ليس لأن يومي لم يسر كما خططت له، بل لأن اليوم اختار الله أن يستردّ فيه روحًا طاهرة، قلبًا كان حنانه الأبوي صادقًا.

أدركت أن الفقد يعرّينا من كل أقنعتنا، حتى لا يبقى سوى حقيقتنا العارية أمام أنفسنا وخالقنا. وهنا تذكرت قول الحكيم الصيني لاوتزو في كتابه ”تاو تي تشينغ“: ”عندما تتخلى عن ما أنت عليه، تصبح ما يمكنك أن تكونه“.

فالموتُ خيطٌ يربط الفقد بالفقد، يلتف حول القلب كعقدة لا تنفك، ويشدّ الذاكرة إلى وجوهٍ غابت. كل رحيل هو مرآة تُرينا من نحب، فينعكس الماضي على الحاضر كأنهما وجهان لصورة واحدة.

الموت ليس نهاية الرحلة، بل جزء أصيل من نسيج الحياة. يذكّرنا بأن الأرواح خالدة، وأن المعنى الحقيقي لا يسكن في ما نتشبث به، بل فيما نتركه يرحل، ليفتح لنا بابًا إلى ما هو أعمق وأبقى.

في لحظة الفقد، تتجلى هشاشتنا وحقيقتنا العابرة، فنكتشف قيمة اللحظة الحاضرة بكل ثقلها وجمالها. كأن الموت، بصمته المدوي، يعلّمنا كيف نحيا حقًا.

حينها يتردد في ذهني قول الفيلسوف الرواقي سينيكا في ”رسائله الأخلاقية“: ”ليست الحياة القصيرة هي المشكلة، بل إهدارها“. كل وداع إذن، هو دعوة صريحة لتقدير الوجود بكل أبعاده، وبناء معنى أصيل لا يُمحى. وهذا التقدير يتجاوز مجرد الحضور؛ إنه وعيٌ بأن الأرواح التي تشاركنا نبض هذه الحياة الهشة، هي خيوطٌ أزلية في نسيج وجودنا، ومرايا تكشف أعمق أبعاد ذواتنا ومعنى رحلتنا. إنها دعوة لاحتضان كل لحظة مشتركة كجوهرة معنى لا تُفنى… قبل أن تخفت الأضواء وتذوب أبواق الزحام في صمتٍ أبدي.

كاتبة ومستشارة استراتيجية، تؤمن أن الوعي هو أول خطوة في بناء أي كيان ناجح، وأن ما لا يُفهم في الذات، لا يُصلح في المؤسسة