حين يُباع الأخ… ولا يُسأل الثمن
هل نبيع إخوتنا حقًا حين نرفض مسامحتهم؟
أم أننا نبيع شيئًا من ملامحنا، كلّما تركنا القلب حارسًا لبوابة الغياب بدل أن يكون حارسًا لحديقة البقاء؟
في الحكايات التي لم تجد طريقها إلى الورق، كثيرًا ما تأتي الحكمة على هيئة سؤال خافت، يبدو بسيطًا، لكنه يزن في قلبه أحجار أعمارٍ كاملة من الخسارات.
سمعتُ مرة حوارًا في مثل شعبي:
- ”بكم بعتَ أخاك؟“
- ”بتسعين زلّة.“
- ”أرخصته.“
لم تكن الفاجعة في فعل البيع، بل في أن يصبح الفقد بندًا في دفتر الحساب… كأن الأخوّة، إن فرّطنا بها، لا تستحق السؤال عن غيابها، بل عن هامش الربح فيها.
منذ قابيل، حين رفع أخوه في وجهه مرآةً لا يريد النظر إليها، صار القرب أحيانًا أشد فتكًا من العداوة، لأنه يفضح ملامحنا التي نتظاهر بنسيانها. واليوم، لم نعد نحتاج إلى خنجر؛ كلمة واحدة تكفي، أو صمت ممتد كليلٍ بلا قمر، أو أبواب موصدة بيدٍ تتظاهر بأنها لا تعرف المفتاح.
حوّلنا العلاقات إلى سوقٍ تحت الأرض، نقايض فيه الغياب بمزيد من العزة، والحب إلى عقدٍ لا يعترف بالعطب، بل يفسخ نفسه عند أول خدش للشروط.
وأسأنا فهم الوصايا القديمة؛ ظننا أن ”أحبب حبيبك هونًا ما“ حيلة لترويض القلب، ولم ندرك أنها فسحة هواء كي لا يموت الحب من فرط احتضانه.
صرنا نخلط بين الكبرياء وتشييد الأسوار، بين النضج وإتقان فنّ الصمت العقابي. نترك من نحبّهم عند حافة الانتظار، لا لشيء إلا لنرى إن كانوا سيعودون، ثم نفاجأ بأن الطريق صار غريبًا عليهم.
لو كانت النجوم تتخاصم كما نفعل، لانطفأت السماء باكرًا… لأن كل نجمة كانت ستنتظر الأخرى أن تضيء أولًا، حتى يغرق الكون في ليلٍ لا اعتذار له، وتبقى المجرات مجرّد أرشيف للضوء الذي كان.
العلاقات لا تموت من زلة، بل من الجبن في النظر إليها، ومن إدمان القصاص بدل التفسير، ومن الإيمان المسموم بأن الحب يصمد بلا ظلّ ولا ماء.
الحب، كالأرض، لا يختبر بالتصحّر، بل باليد التي تبقى حين تتصدّع التربة.
ربما لا نملك إعادة من رحلوا، لكننا نملك أن نصلح الجسور، أن نقرع بابًا حتى لو كان مُطفأ الضوء، أن نقول ”اشتقت“ لا لأننا ضعفاء، بل لأننا لا نريد أن نصبح أقوى من قلوبنا.
فالسؤال ليس: ”هل يستحق أن أصفح؟“
بل: ”أي أثر أريد أن أتركه في عمر يتقشّر سريعًا كصفحة قديمة؟“
المسامحة لا تُبرّئ الآخر بقدر ما تُبرّئك من أن تتحجّر، من أن تفقد القدرة على التفتّح. فكل مرّة نرفض فيها الحب، لا نخسر شخصًا، بل نخسر نافذةً كان يمكن أن تطلّ بنا على ساحةٍ أوسع من وحدتنا…
ونستيقظ ذات يوم، لنجد أن ما بعناه لم يكن أخًا، بل آخر ضوءٍ كان يعبر بيتنا.