فَاطِمَة
تقول فاطمة:
نعم أنا معجبة بحيدر، حيدر أخ تسنيم صديقتي، لم أعترف لنفسي بذلك قط إلا بعد إعلانه من المفقودين في تلك المنطقة المشؤومة جنوب البلاد، والتي تدعى ”بئر الزمكان“، يوجد الكثير من التحذيرات منها، وطوق أمني حولها لا يعمل بكفاءة لكونها منطقة نائية، كما أن رجال الأمن بدورهم يمثلون نصف المفقودين هناك، من يغامرون بزيارتها يدّعون أنهم ذاهبون للتخييم في البر وحسب، حيث أن جنوب البلاد يغلب عليها الكثبان الرملية... وربما كانوا مخيمينَ فعلاً في البر، قبل أن يتحدى أحدهم الآخر لزيارة ذلك المكان الغامض المخيف، والتحقق من الإشاعات التي تؤكد أو تنفي وجوده.
تقول الإشاعات أن ذلك البئر يغير مكانه من وقت لآخر... كيف يذهبون إليه إذن إذا كان يغير مكانه؟ اسأل أحد المهووسين بالظاهرة وسيخبرك أن عليك أن تتجه جنوبا وحسب، وإذا كنت من المحظوظين فسترى ما يشبه أنوار الشفق القطبي ترقص في السماء تدلك على المكان، سترى ألوانا لا أسماء لها، لأنها ألوان لم ترَها من قبل ولا توجد في أي مكان آخر... البئر يشير إلى من يبحث عنه..
... لكن...
ما الذي يأتي بأنوار الشفق القطبي إلى الجنوب؟
لست أدري... والحق أنني لا أهتم كثيراً بالفيزياء أو الفلك.
كان شغفي دائما هو الأحياء البحرية، الكائنات التي انقرضت، وتلك التي تطورت لكي تتكيف مع الملوحة المتزايدة، وتلك التي تصلح للاستهلاك البشري كغذاء... لكن معرفة تسنيم بتقنية صنع الربوتات والذكاء الاصطناعي أبهرتني، ومن ثم قررت دراسة المجال نفسه، أول لقاء لي بحيدر كان تعليقا عابراً قاله لتسنيم وهي تشرح لي شيئا يتعلق بذلك العلم، من ثم اتهمته هي بأنه لا يعرف ما يتكلم عنه وسحَبَت يدي لنترك بهو منزلهم ونذهب إلى غرفتها.
لم أره بعد ذلك إلا مرات قليلة، وفي كل مرة أراه أشعر بالتوتر، عيناه... صوته...
لم أتحمل في ذلك اليوم رؤيته دون أن تكون تسنيم أو أمها بقربنا، وبالتالي فقد غضبت وانفعلت حين سلم عليّ على اعتبار أنه قد رفع الكلفة بيننا.. وأن ذلك لم يكن لائقاً، خاصة وأنني كنت وقتها أشعر بالغضب من نفسي لأنني ضيعت وقت أخته لكي تشرح لي دروسا في الهندسة لن أفهمها أبدا.. وأدركت أنني أخطأت حين قررت دراسة الهندسة، وأنه قد حان الأوان لتدارك ذلك الخطأ وتغيير خططي للمستقبل.
فترَت علاقتي بتسنيم بعد اختفاء حيدر وتركي لدراسة الهندسة، وكأن القاسم المشترك الأكبر بيننا قد اختفى.
هذا وقد أصبحتُ أميل عامة لعدم الخروج من المنزل، ما كان تغييرا سعيدا لأمي بما أنني أصبحت أحمل عنها عبء العناية بأخي الصغير هاشم أغلب الوقت، فأصبحَت تخرج بدونه، لن أفاجأ لو تركته معي لتسافر ليوروأفريقيا الغربية...
... كما أنها رحبت بقراري لتغيير تخصصي الدراسي بدون أن تلومني أو تكثر من التعليق على الأمر أو الحديث عنه مما أشعرني بالامتنان، مع أنه أشعرني كذلك ببعض خيبة الأمل، كنت أتوقع أن توبخني على تضييع سنتين من حياتي على دراسة تخصص قررت عدم إكماله...
لا تبالغي... لا تبالغي بالتفكير في الأمر يا فاطمة المريخي.
يُقال أن صور الهولوقرام تعرقل النمو السليم للأطفال، وأنهم يجب أن يلعبوا بدمى لها وجود مادي ملموس، وبالتالي فقد أعطيت هاشم لعبته المفضلة وهي عبارة عن أرنب محشوّ يلبس بدلة توكسيدو سوداء، وهو زي قديم انقرض ولم يعد أحد يلبسه سوى بعض ألعاب الأطفال.. وضعتها على بعد بضع خطوات أمامه لكي يحبو باتجاهها.. وقد وصل إليها بسرعة أدهشتني.
كانت اللعبة تقول: ”والدادو شاف الوقعة... قال اخدوني للقلعة“.
لسبب ما ذكّرتني العبارة بذلك البئر الذي يخطف البشر، وتخيلت أنه ينوي اختطاف هاشم مني هذه المرة، شعور بالانقباض غَمرني بينما كلمة ”وقعة“ ترنّ في ذهني كنذير شؤم، فسحبت اللعبة منه، فاحتجّ بغضب قائلا: ”دا دااا، نااا“.
من ثم حاولت تغيير الأغنية، لكن خرج لي فجأة صوت عميق واضح من اللعبة يقول: ”سوف نعود، وفي هذه المرة سندمر كوكب الأرض تماماً، لن نترك فيه قطرة ماء واحدة“.