آخر تحديث: 25 / 9 / 2025م - 2:37 ص

خارطة طريق اقتصاد ”إسرائيل“ ما بين ”سبارتا العظمى“ و”الميركنتالية الجديدة“!

الدكتور إحسان علي بوحليقة * صحيفة مال

تراجعت سوق المال في الكيان بعد أن وقف رئيس وزراء الكيان موقف المدافع عن متانة اقتصاد ”إسرائيل“ أمام مؤتمر اقتصادي الأسبوع الماضي، معترفاً بأن الطوق الخانق على عنق ”إسرائيل“ هو طوق العزلة، ولعل هذا الاعتراف هو الوحيد الذي أقرّ به رئيس وزراء الكيان، مُضيفاً بأن على اقتصاد ”إسرائيل“ السعي لأن يكون اقتصاداً ”ذاتي الاعتماد“ (والتعبير الذي استخدمه على وجه التحديد هو Autarkic)، بمعنى أن يصبح اقتصاد ”إسرائيل“ اقتصاداً مغلقاً! ففي وقتنا الحاضر لا وجود لأي اقتصاد مغلق، ولا حتى اقتصاد كوريا الشمالية، الذي هو أقرب اقتصاد في وقتنا الراهن لأن يكون ”ذاتي الاعتماد“ أو (Autarkic).

السؤال: هل هذا ممكناً بالنسبة لـ ”إسرائيل“؟ الإجابة القصيرة، سِلماً ليس ممكناً، حرباً عبر التوسع واستلاب ما بيد الآخرين على الطريقة ”الميركنتالية“ التي اتبعتها القوى الاستعمارية من القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر. وتجنباً للتخمين، فقد استطرد نتنياهو مبيناً ”خلطته السرية“ لتحقيق ذلك بأن يُحوِّل ليس فقط اقتصاد ”إسرائيل“ بل كل كينونة ”إسرائيل“ لتصبح مجتمعاً يتخذ من الحرب حياة ومن الحياة حرب، حيث بيَّن بأن مخرج ”إسرائيل“ من عزلتها هو أن تصبح ”سبارتا العظمى“ (Super Sparta)، ولم تكن سبارتا قبل 26 قرناً أكثر من جمهورية بدأت صغيرة، فامتهنت الحرب والتوسع، والتوسع والحرب والهيمنة، فلم تبقِ لها صديقاً إلا واعتدت عليه وناكفته، وانتهى بها الأمر إلى الانكفاء! ويبقى السؤال: هل بالإمكان أن تعيش ”إسرائيل“ في عزلة وأن يكون اقتصادها اقتصاد سِلْم؟

ولم يكن حديث نتنياهو عابراً، بل قدّمهُ منتصف الشهر (15 سبتمبر 2025) أمام حضور من المختصين من خلال عرضٍ مرئي مكوَّن من حزمة من الشرائح المُعَدة مُسبقاً مُدعمةً بالرسومات البيانية، خلاصتهُ أن الاقتصاد ”الإسرائيلي“ متين، وأن الحرب على غزة لم تؤثر في نموه، وكانت رسالته موجهةً للمستثمرين بأن يُقبلوا على اقتصادٍ مُقبِلٍ على انطلاقةٍ كبيرة، وبسرعة قبل أن تفوتهم الفرصة، وقال: إنه عندما يُقَيَّم أي اقتصاد يُنظر إلى مؤشرين اثنين: 1. نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، و 2. نسبة الدَّيْن إلى الناتج المحلي الإجمالي.

فكيف كان أداء اقتصاد ”إسرائيل“ في المؤشرين؟ في الأول، ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 55 ألف دولار في العام 2022 ويقدَّر أنه ارتفع إلى 58 ألفاً في العام 2025، أما المؤشر الثاني وهو نسبة الدَّيْن الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي فقد ارتفعت نسبتهُ من 60.5 بالمائة في العام 2022 (أي قبل الحرب على غزة) إلى ما يتوقع أن تصل إلى 69 بالمائة (العام 2025).

ومن جانبي فسأضيف مؤشرين هما أكثر دلالة ويشكّلان أرقاً لاقتصاد ”إسرائيل“ نتيجة للحرب على غزة وتداعياتها، وهما:

(1) تراجع الاستثمار - إذ انخفضت نسبة تكوين رأس المال الثابت من 22 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2022 إلى 20 بالمائة في العام 2025 (متوقع)،

(2) صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر - حيث تراجعت قيمته من 22.8 مليار دولار في العام 2022 إلى نحو 17 مليار في العام 2024.

والدعوة للانغلاق هي دعوة متطرفة بالفعل؛ فإن يكون الاقتصاد ”ذاتي الاعتماد“ يعني أن يكون مُنكفئاً على الداخل، منعزلاً عن الخارج، ولِمَ؟ لن تسعى دولةٌ لذلك إلا مُضطرةً، لكونها غدت ”متوجسةً مما حولها أو نتيجة مقاطعتها ونبذها من قِبَلِ الدول الأخرى، كما هو الحال مع كوريا الشمالية حالياً، باعتبارها المثال الشاخص لاقتصادٍ مغلق (Autarkic)، لا خارطة طريق لاقتصادهِ إلا تقوية ذاته عسكرياً وإنتاج احتياجاته استهلاكياً، تحوّطاً لتأثير العقوبات على صادرات“ إسرائيل" ومنع الواردات إليها.

هذا الاعتراف الذي أتى من ”عَظْمَة لسانه“ نتنياهو بداية الأسبوع الماضي يُبين تأثير تداعيات المحاصرة الاقتصادية التي تبعت التطهير العرقي الذي ما برحت ”إسرائيل“ انتهاجه، بشهادة الأمم المتحدة.

أما عملياً فليس بوسع اقتصاد ”إسرائيل“ أن يكون مُغلقاً؛ فالمُنقذ لاقتصاد ”إسرائيل“ من العزلة الكاملة هما قطاعا التقنية والتسليح، فهما ينتجان أهم صادراتها، ولهما سلاسل إمداد تصل شبكتها إلى عشرات البلدان على الرغم من تأثر وتيرة الصادرات إجمالاً نتيجةً للحرب على غزة؛ ففي العام 2024 مَثلت الصادرات 28.5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي ”الإسرائيلي“، مُتراجعةً من 30.5 بالمائة في العام 2023، أما أهم صادرات ”إسرائيل“ بلا منازع فهي خدمات الاتصالات والحوسبة، فقيمتها 54 مليار دولار، وتمثل ~65 بالمائة من صادرات الخدمات، ولمقاربة القيمة وأنها بالفعل كبيرة، فمبلغ 54 مليار دولار يمثل - من حيث القيمة - نقطة وسط ما بين الإيرادات النفطية لدولة الكويت (63 مليار$) ودولة قطر (44 مليار$)، جُلّ تلك الصادرات (48 مليار$) هي صادرات تقنية المعلومات والذكاء الاصطناعي، يذهب 60 بالمائة منها إلى الولايات المتحدة، ثم الاتحاد الأوروبي والصين والهند، فضلاً عن أن ”إسرائيل“ طرفٌ في اتفاقيات تجارة حرة مع 48 بلداً، فيما تمثل المعدات الكهربية والطبية أهم الصادرات السلعية لكن لا ترتقي قيمتها لتنافس خدمات الحوسبة ولا حتى من بعيد.

المغزى:

أن ليس بوسع اقتصاد ”إسرائيل“ أن ينعزل، وأن دعوى نتنياهو الدرامية هي ”دمعة تمساح“ فهي عند التمعن فيها أقرب ما تكون إلى ”الميركنتالية الجديدة“ منها إلى الانكفاء على الذات، عبر السعي لزيادة الصادرات ولاسيما العسكرية والتقنية، والحد من الواردات والاستفادة من الاتفاقيات التجارية، وبناء احتياطيات من النقد.

أما طموح نتنياهو في إقامة ”سبارتا العظمى“ فهو طموح يُثير الشكوك كونهُ مفعماً بالعدائية لمحيطه، ويُبطن مزيداً من المخاطر على استقرار المنطقة، فقد كانت سبارتا - قدوتهُ التي يطمح أن يقتدي بها - جمهوريةً تقتاتُ على الهيمنة عبر بناء مجتمعِ حرب امتهنَ مهاجمة جيرانهِ.

كاتب ومستشار اقتصادي، رئيس مركز جواثا الاستشاري لتطوير الأعمال، عضو سابق في مجلس الشورى