الخيط الرفيع في ارتباط الأجيال
تعبير ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ﴾ [البقرة: الآية 187] الوارد في كتاب الله المجيد كناية عن دخول وقت الفجر. إلا أن الخيط الرفيع في التعامل مع المحيطين بالإنسان أحيانًا كثيرة، يكون في أحيان منها بين سندان الجيل الصاعد ومطرقة الجيل السابق. وهذا الأمر يجعل الآباء المعاصرين الذين لديهم تواصل فعّال مع كلا الجيلين، تحت ضغوط مثيرة وكثيرة ومجهدة من جهة بعض الأجداد المحافظين وبعض الأحفاد الانفتاحيين أو الليبراليين أو المواكبين لمتغيرات عديدة بناءً على مؤثرات وإفرازات العولمة الثقافية وتموجات اقتصادية ومنعطفات متعددة.
حتماً في هكذا عجالة لا أستطيع أن أسلط الضوء على جغرافيا علاقات الأفراد داخل الأسر حول العالم، ولكن سأتناول بعضًا منها. ونلتمس العذر مسبقًا من الجميع إن أخفقت في تدوين كل المظاهر أو إن أخفقت في بعض التعابير. إلا أن المقال برمّته يهدف لتجسير وثاق التواصل بين أطياف الأجيال المختلفة وإن اختلفت بعض السلوكيات عند البعض. لأن التنافر بين الأجيال مع تطاول الزمن سيولّد مجتمعًا هشًا وسهل الاختراق والتفتيت، وتُمرَّر عبره المزيد من السلوكيات والأفكار الشيطانية.
لعل بعض البيئات الاجتماعية في بعض الدول، لا سيما في الشرق والشرق الأوسط بالتحديد، رأت أن من مستجدات التحديات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية بعض المظاهر التالية:
1 - تدخين السجائر والشيشة عند بعض الفتيات.
2 - رسم التاتو على جسد أو أطراف بدن الشباب.
3 - الكشف عن الوجه بالنسبة للفتيات في الأوساط الاجتماعية المحافظة تقليديًا.
4 - لبس عباية الكتف والعباءة الملوّنة بالنسبة لبعض الفتيات.
5 - الانتماء لأندية سفر بالنسبة للفتاة، والسفر مع الأجنبيات والأجانب وبعض الصديقات من دون محرم لدول أجنبية مختلفة.
6 - التحاق بعض الفتيات بدروس السباحة والغوص والرقص والعزف المختلط.
7 - العمل المهني المختلط خارج وداخل البلد وما يتعلق به من رحلات عمل وحضور احتفالات سنوية وحضور دورات تدريبية.
8 - كشف مقدمة الشعر أو نزع الحجاب عن شعر الرأس من قبل بعض الفتيات في الأماكن العامة، أو لبس الضيق الفاتن من الملابس عند الخروج للأماكن العامة.
9 - وضع بعض الفتيات والنساء مكياج كامل عند الذهاب للتسوق والمكتبات العامة والطرق والمطاعم وفي السفر.
10 - إطالة الشعر والأظافر ولبس القلائد الفضية/المطلية بلون ذهبي عند بعض الأولاد.
11 - المجاهرة بالاستماع للأغاني والموسيقى العالية في وسط الأماكن والشوارع العامة، والترنّح عند المشي بموجب تلك الموسيقى من قبل الفتيات والفتيان.
وهنا نرى بعض أفراد المجتمع ينقسمون إلى فريقين:
• فريق يحاول المقارعة والاصطدام مع أبناء الجيل الصاعد حد النفور أو التباغض أو النزاع المستمر. وهذا أمر يحتاج لدراسة معمّقة.
• وفريق آخر يقول فيه البعض ممن هم في مقام أب أو جد أو أم أو جدة: علينا أن نستعد للتخلي عن افتراضاتنا وبعض أعرافنا القديمة، مما صُنِّف أنها أعراف اجتماعية متغيرة لمفهوم العيب، والنظر بتمعّن وجدية في أفعالنا وتصرفاتنا وتعاملاتنا وعواقبها لا سيما مع الأبناء والأحفاد، لكي نضمن العيش المشترك واحتضانهم وكسب قلوبهم تارة بالإقناع، وتارة بجميل العطف، وتارة بالحوار، وتارة بالتذكير المستمر، وتارة بالمؤاخاة، وتارة بالمصاحبة، وتارة بالكرم والتودّد. وتمحيص الفعل أو ردّة الفعل من الآباء نحو سلوك الأبناء/البنات إن كانت ناتجة عن أعراف اجتماعية معينة أو تقاليد، أو فهم شخصي للدين، أو بناءً على تحريض عشائري، أو بناءً على استفتاء ديني رصين، أو قيود رسمية، أو قانون زمني معين في جغرافيا معينة.
العمل على فرز ما هو مدوَّن ضمن الأعراف والتقاليد من جهة، وما هو منصوص عليه بالدين الصحيح من جهة أخرى أمر مهم، وإن كان العمل في ذلك عملًا مُجهدًا وشاقًا ويحتاج إلى شجاعة وصلابة وعنفوان وبصيرة وذكاء وتمحيص وأريحية وأفق واسع وصدر علمي رحب. ويؤمن البعض من أبناء الجيل المعصور بين السندان والمطرقة أن: تنقيح كمية الرفض «اللاءات الاعتراضية» والاعتراض الزائدة أمر لا بد منه. وإن الفشل في إعادة تأطير العلاقة مع أبناء الجيل الصاعد وشرح المواقف والحيثيات للجيل السابق قد يؤدّي إلى شروخ متعددة وهدم بناء الأسر واندثار الاجتماعات العائلية الكبرى.
وعدم استدراك الأمور قبل فوات الأوان سينتهي إلى تفتت العلاقات الأسرية وضمور التأثير بل وتشرذم العلاقات.
وعليه ينادي بعض العقلاء، وأنا أضم صوتي معهم في بعض الأطر، بضرورة:
1 - رسم الخطوط الحمراء بناءً على القيم الثابتة وليس الأعراف المتغيرة. فمثلًا منعت بعض الأسر إلحاق أبنائها وبناتها في سلك التعليم الرسمي، واكتشفت مع مرور الزمن أن ذلك كان مجانبًا للصواب، لاسيما أن مواد التعليم محترمة ومحتشمة ونافعة.
2 - توطيد لغة التفاهم والنقاش النافع بين الأبوين أمام الأطفال. فقد ثبت بالعلم الحديث أن الأطفال عندما يكبرون ويصبحون آباء فإن مخزون التربية في طفولتهم يُترجم وينعكس في آليات تعاملهم مع أبنائهم. أنصح بقراءة كتاب:
”الكتاب الذي تمنيت لو قرأه والداك، وسيفرح به أطفالك لو قرأته“
”The Book You Wish Your Parents Had Read, and Your Children Will Be Glad That You Did“.
3 - خلق بيئة حاضنة بناءً على إعادة صياغة المفاهيم المنتزعة من روح نصوص الشرع وليس الأعراف المتغيرة.
نعترف بأن وجود تيارات فكرية متعددة ولَّد ويولِّد صعوبات جمّة في مسيرة التربية داخل كيانات معظم الأسر المحافظة، إلا أن ذلك يعتبر بلاءً ورحلة حياة وسعيًا حثيثًا نحو المزيد من الثواب. حسن توظيف العقل والإمكانيات المتوفرة من قبل الوالدين المتفهّمين في تربية أبنائهم لما يدور حولهم سيجعل من تلك التحديات عوامل تواصل في أكثر من إطار، وسيُختم للأبناء بإذن الله بالعاقبة الحسنة. والعكس صحيح. الاحتضان للأبناء من قبل الآباء وإعادة تمحيص وتشخيص الخطوط الحمراء سيفسد على الشيطان خططه في هدم بناء الأسر.
فيا من تبحث عن أبوة ناجحة وأسرة مستقرة: كن فاهمًا… كن فاعلًا… كن مبادرًا.