المتحدث والمصغي، هل اختفيا؟
يقول لاوتسه «حكيم الطاوية»:
”من يعرف؛ لا يتكلم كثيرًا، ومن يتكلم كثيرًا؛ لا يعرف.“
رغم أنني لا أرى دقة هذه الحكمة بشكل يجعل مصداقها صحيحا تحت كل ظرف، إلا أنها تكشف حقيقة أن إحدى سمات العالم قلة الحديث؛ وهذه القلة تعني باختصار التأني والتفكير العميق قبل التحدث أولًا، وبالعلم والدراية بالموضوع ثانيًا. إن قوة الحديث لا تُقاس بكمية الكلام، بل بقدرته على إيصال الفكرة بأقصر الطرق وأكثرها وضوحًا. في هذا السياق، يُنقل إن هناك ثلاث علامات واضحة تدل على ضعف المتحدث: أن يقاطع الآخرين باستمرار، وأن يُفرط في التفاصيل غير الضرورية، وأن ينشغل بتجهيز رده بدلًا من الإصغاء.
السؤال يبقى هنا: لماذا نادرًا ما نجد؛ في أسواق الناس ومنتديات الأصدقاء وقروبات الواتساب وغيرها من يجيد الحديث والإصغاء معًا؟ في اعتقادي أن المسألة ليست مجرد جهل بقواعد السلوك، بل ترتبط أحيانًا بعقلية ترى أن الالتزام لا معنى له ما دامت الأغلبية لا تلتزم. فيقول أحدهم: لماذا أقف في طابور الانتظار إذا كان الآخرون يتجاوزونه؟ ولماذا ألتزم بقوانين المرور إذا لم يعبأ بها أحد؟ بالمنطق نفسه، يصبح الإصغاء ترفًا غير ضروري، ويغدو الحوار ساحة للمقاطعة والجدال. وهكذا يتشكل مجتمع يساير بعضه بعضًا في الخطأ، فيتراجع فيه الإصغاء الصادق كما يضعف الحديث العميق. وهنا يظهر دور المربي: أن يغرس في الطفل منذ نعومة أظفاره قيمة الإصغاء بقدر قيمة الكلام، وأن يربيه على التمسك بالمبادئ ولو خالفها الجميع. فالطفل الذي ينشأ على هذا الوعي يكبر ثابتًا على المثل الأخلاقية، قادرًا على رفض سلوك القطيع، وأكثر أهلية لأن يكون متحدثًا جيدًا ومستمعًا أصيلًا.
الإنسان في ذاته نعمة كبرى، لكنه لا يكتمل إلا إذا جمع بين فن الإصغاء وفن الحديث. فالكلمة بلا أذن واعية تفقد معناها، وتتحول إلى وعظ عابر.
في هذا السياق، ما أجمل القصة التي يرويها البرازيلي باولو كويلو:
«كان الأب يحاول أن يقرأ الجريدة، لكن ابنه الصغير لم يتوقف عن مضايقته. فقام الأب بتقطيع ورقة تحوي خريطة العالم، مزقها إلى أجزاء صغيرة، وطلب من ابنه إعادة تجميعها. ظن الأب أن الأمر سيستغرق بقية اليوم، لكن الطفل عاد بعد ربع ساعة وقد أعاد الخريطة كاملة! فسأله الأب بدهشة: هل تعلمت الجغرافيا من أمك؟ فأجاب الطفل: لا، لكن كانت هناك صورة لإنسان على الوجه الآخر من الورقة، وعندما أعدت بناء الإنسان أعدت بناء العالم أيضًا».
هذه الحكاية تحمل رسالة عميقة ملخصها أنّ بناء الإنسان هو بداية بناء العالم. وإن لم نتعلم الإصغاء الحقيقي، فلن ننجح في أي حديث نتفوه به، ولا في إعادة بناء أنفسنا. وسنظل ندور في دائرة المهاترات والجدل العقيم. هكذا، حين نصغي بقلوبنا قبل آذاننا، ونتحدث بعقولنا قبل ألسنتنا، نصبح متحدثين أقوياء، ونمنح العالم فرصة ليُبنى بشكل أفضل. أما إذا غاب الإصغاء والقول المسؤول، فلن يكون الإنسان نعمة، بل سيتحول إلى نقمة حقيقية في هذا العالم.