تيارات فكرية ومفكرون «1»
”مرجعية المسلمين الفكرية والتشريعية والأخلاقية هي القرآن الكريم أساسًا، وكل ما اتفقت عليه بالإجماع فرق المسلمين من الأحاديث النبوية الشريفة“، هكذا قول يردده الأغلب الأعم من المسلمين حول مفهوم المرجعية الفكرية والتشريعية والأخلاقية لأتباع الدين الإسلامي الحنيف. ومرجعية الغرب المسيحي المعاصر الفكرية والتشريعية هي مجموعة أفكار اقتصادية «كارل ماركس / آدم سميث» ومجموعة أفكار لمفكرين وفلاسفة غربيين معاصرين ورومانيين قدماء، ومخاضات الثورة الفرنسية من دستور حقوق الإنسان، وتراكم تجارب بشرية مختلفة وخليط من قوالب طقوس وترانيم عبادية تُنسب لدين أو فرقة داخل دين.
أما القيم الأخلاقية «ethical values» في بعض المجتمعات القاطنة ما وراء الأطلسي فتختلف بعض الشيء عن القيم الأخلاقية التي كانت وما زالت رائجة في مجتمعات القارة العجوز، والقارة السمراء، والقارة الصفراء. ولعل ما يحدث الآن في بعض المناطق حول العالم هو ترجمان واقعي لتبني وممارسة آراء وأفكار ميكافيلي «صاحب كتاب الأمير»، وهي التي سادت وتسود في عالم سباق المصالح وتبرير الغايات.
في الشرق الأوسط، حيث السواد الأغلب للسكان هم من أتباع الدين الإسلامي بطيف مذهبي وطقوس دينية متنوعة، برز في القرن الأخير عدد ليس بالقليل من المفكرين الناطقين بالعربية والعرب. بعض المتحدثين العرب يقدمونهم في الإعلام على أنهم مفكرون، وهم ممن عاش بعضهم صدمة حضارية غربية أو شرقية، سواء صدمة اقتصادية أو ثورية أو اجتماعية أو قومية أو تكنولوجية، وآخرون منهم عاشوا غلو التأويل وتحميل النصوص الدينية ما لا تطيق أن تتحمله لمآرب مختلفة.
ونتيجة للقهر أو الخذلان أو الحرمان من جهة، والشعور بالنقص والدونية وسعة الفرق، يعقد بعض أولئك المفكرين مقارنات غير منطقية بين حالة وأحوال شعوب الدول الصناعية المتقدمة ذات الغالبية غير الدينية أو لون دين معين من جهة أخرى، ليزدري دين مجتمعه ويُمعن في تحقير أبناء مجتمعه ويدعو لتبني أفكار وممارسات عربدة يمارسها أهل الابتذال في مجاميع تلك الدول المتقدمة صناعيًا.
انطلق عدد من أولئك المفكرين في تبني مدارس فكرية عدة تصل حد التناقض، يمينية ويسارية وكل الأطياف الأخرى؛ منها من ينادي بإلغاء الدين جملة وتفصيلًا، وينادي بالعلمانية التجريدية والحرية الفردية دون أي ضوابط. ومنهم من قطع مشوارًا في ذلك ويؤول نصوص الدين ليكيفها مع مفاهيم تتناسب وقوى الأقطاب الأكثر تأثيرًا في العالم. وعلى النقيض منهم هناك من ينكر ويجحد ويستخف بكل الإنتاج الفكري الأجنبي الناهض. وهناك من يزن الأمور والممارسات بمعايير المنطق والعقل والحكمة والدين، وينتقي من الأفكار والقيم عند عمل تحديد وتكبير لجزئية معينة من تلك الشرائح الفكرية المتفاوتة.
لفت نظري شيء مشترك في شريحة المنصدمين حضاريًا، وهو أن عددًا ليس بالقليل من رافعي علم المشهد الفكري المعاصر في الدول العربية والذين يطلون عبر الشاشات الفضية بشكل مكرر، هم من خريجي جامعات فرنسية وغربية، وآخرون من جامعات سوفيتية ذوات توجهات علمانية تسقط مرجعية الأديان في كل شؤون الحياة!
شخصيًا ولمدة من الزمن، كنت أحسن الظن في الأغلب الأعم من أولئك المفكرين الذين يطلون عبر الشاشات الفضية؛ وكنت وما أزال أقرأ للأغلب من كل الأطياف الفكرية بهدف البحث واستنطاق الوعي والاطلاع على المنتوج الفكري أو التحقق مما يُنسب لهذا أو ذاك من أقوال وأفكار. إلا أن البعض ممن يسمون أنفسهم مفكرين، أرادوا جلب الأضواء الإعلامية لشخوصهم عبر سكوب استفزاز الآخرين في عقائدهم ونمط حياتهم وانتهاك القرآن الكريم، وما حوادث حرق القرآن الكريم إلا أمثلة صارخة.
والواقع أن هكذا استفزاز عبر السباب والشتم على منابر الإعلام الرخيص والموجه والمعادي للإسلام، يجعل أي عاقل منصف سليم الفطرة في أنحاء الكون يقرأ المشهد بصورة شاملة وتجريدية وموضوعية ويأخذ بالتنقيب عن صحة المعلومة. فيطرح سؤالًا بسيطًا: لماذا هذا الدين يتم استهدافه واستهداف أتباعه حول العالم في أكلهم ولباسهم وعقائدهم وصلاتهم على مدار الساعة من عدة قنوات فضائية ورقمية وبرامج وحوارات وندوات؟!
أسئلة تُطرح عن: من هو المفكر؟ وما هو نتاج هذا وذاك المفكر؟ وما هو هيكل وبرامج أفكاره؟ من يمول أولئك المفكرين الذين يطلون على الشاشات؟ بماذا تخدم المجتمع أطروحات هذا أو ذاك المفكر؟ هل المفكرون حصرًا هم من يطلون علينا عبر الشاشات الفضية أم أن هناك من هم أولى وأثرى علمًا وأدبًا وأخلاقًا ونقاءً منهم؟