آخر تحديث: 25 / 9 / 2025م - 2:37 ص

الزمن الردي

حكيمة آل نصيف

هناك تحولات وتغيرات شهدتها القيم الأسرية ونسيج العلاقة بين أفرادها، مما أفرز واقع التفكك والاختلاف واتساع رقعة التباعد وعدم الانتماء، ويقدّم البعض قراءة لهذا الواقع بأنها إفراز ونتاج طبيعي لتطورات الحياة المعاصرة وما داخلها من عوامل مؤثرة كالمشهد الإعلامي ووسائل التواصل الاجتماعي والانكباب على الأجهزة الذكية، والأمر لا يقتصر على التقدم التقني بل الإيقاع المادي والمهني وما يفرضه من واقع التباعد وصعوبة اللقاءات الأسرية الدورية، ولكن هذه القراءة تسطيح لما يطفو على المشهد الأسري من سلوكيات وظواهر غير مقبولة بحسب القيم الإنسانية والتربوية المجتمعية التي يقع عليها التسالم والاتفاق، ففي زمن انحدرت فيه النفوس ونزعت عنها عباءة القيم والتعاطف الوجداني اتجهت الأمور إلى التأزم بما نسميه بالزمن الردي، فهل هذا التفكك بين أفراد الأسرة وفقدان التراحم والتفاعل والتواصل بينهم ظاهرة صحية وطبيعية؟!

فعلى مستوى علاقة الأبناء بآبائهم وأمهاتهم كبار السن تظهر أمامنا قيمة البر بالوالدين والاهتمام بهما، فالبر بالوالدين كان ولا يزال قيمة مركزية في المنظومات الأخلاقية والدينية، غير أن بعض الأبناء اليوم باتوا يتعاملون مع الوالدين بمنطق النفعيّة، حيث ينقلب دور الرعاية والتكريم إلى عبء نفسي أو مادي يُسقطه الأبناء عن كاهلهم بحجج الانشغال في تخلٍ صريح عن المسؤولية الأخلاقية والوجدانية.

وتتعدد العوامل المؤدية لهذا المشهد المؤسف من جهة تغير البنية الأسرية النووية والتي أصبح الأبناء يعيشون مستقلين عن آبائهم، كما أن الضغوط المالية والبحث عن تأمين مستلزمات الحياة الكريمة دفعت البعض للتخفف من الجوانب الاجتماعية ومستلزماتها.

وما إن يتوفى الوالد أو الوالدة حتى تتحول روابط الأخوّة في بعض الحالات إلى ساحة نزاع محتدمة على الميراث، وكأن الروابط العائلية كانت قائمة فقط على ما يملكه الأب أو الأم من مال وعقارات، في بروز قوي لصفة الأنانية والتدخل السافر للزوج أو الزوجة والأبناء وتأجيجهم للاحتراب الأسري، ويتعدى هذا الصراع حدود الأسرة ليمتد إلى تفكك اجتماعي وتنقطع الأرحام وتتوارث الأجيال القادمة مشاعر الحقد والكراهية في تكرار مؤلم لدورة الانقسام والقطيعة.

وكان الأخ سندًا لأخيه أما اليوم فكثيرًا ما نلاحظ أن احتياج أحد الإخوة إلى دعم معنوي أو مادي لا يقابل إلا بالتجاهل أو الفتور.

وباتت العلاقات الزوجية في كثير من السياقات تخضع لمعادلات مادية بحتة تتعلق بما يقدمه الشريك وما يملكه وما يستطيع توفيره، فإذا ما مر أحد الشريكين بمشكلة مالية أو صحية أو نفسية ينسحب الآخر دون تردد.

إنّ الزمن الرديء ليس حتمية تاريخية بل هو نتاج تراكمي لاختلالات في المنظومة القيمية والتربوية والخطاب الثقافي، ومع ذلك يمكن استعادة البعد الإنساني في علاقاتنا عبر إعادة الاعتبار للتربية الأخلاقية والعاطفية في البيت والمدرسة.