من عبق الماضي: ”المريوحة“ روحٌ ترفرف في بيوت القطيف
في الموروث الشعبي بالقطيف كما في بعض مناطق الخليج ارتبط كائن صغير يشبه الفراشة بمعتقدات الناس وذاكرتهم الجمعية فاكتسب أسماء متعدّدة باختلاف الألسن واللهجات أكثرها شيوعا اسم ”المريوحة“ الذي تردّد في الحكايات والذاكرة الشعبية حتى غدا اللفظ الأثبت، وإلى جانبه برزت تسميات أخرى مثل ”المرويحة“ التي جاءت من صلة حركتها الدائرية بالمروحة، و”الرويحة“ التي استُخدمت على سبيل التلطيف والتحبّب في بعض البيوت وعلى اختلاف هذه التسميات فإنها جميعا تعود إلى أصل واحد وتجتمع على المعنى نفسه الذي التصق بهذا الكائن الصغير في وجدان الناس.
في بيوت القطيف القديمة حيث تتقاطع العادات بالموروث عرفت الأسر كائنًا صغيرًا ارتبط في وجدانها بالروح والذكرى ذلك الكائن هو المريوحة تشبه الفراشة في خفة جناحيها لكنها تختلف عنها في ألوانها وهيئتها إذ يكسوها رماد الأرض لا زهو الزهور لتبدو وكأنها خرجت من عمق التراب نفسه.
لم تُعرف المريوحة عند أهل القطيف كحشرة عابرة بل كرمزٍ لمعتقد شعبي عريق يرون فيه تجلّي الأرواح التي غابت، إذ يعتقدون أن روح الميت قد تسكن هذا الكائن الصغير فتعود زائرةً إلى دارها ترفرف في أرجاء البيت وتطمئن على أهلها وأحبّتها، فإذا حطت في ركنٍ من الأركان سارعوا لربطها بالراحل القريب فإن دارت حول أدوات البحر قالوا إنها روح الأب وإن استقرت قرب زاوية البيت دلّت على الأم عندها يُقرأ الفاتحة ويُهدى الدعاء والرحمة للغائب.
لم يكن الأمر يقتصر على التلاوة فحسب بل ارتبط بطقوس موروثة فإخراج الصدقة باسم الميت وتلاوة سورة يس كانا جزءا من هذه الممارسة كما كان الحديث مع المريوحة عادةً مألوفة حيث يروي لها أهل الدار أخبارهم وأحوالهم وفي لحظات صفاء تمتزج فيها الكلمة بالدمعة تتحول الجلسة إلى مجلس ذكرى وحنين يستحضر فيه الأبناء أسماء موتاهم واحدا تلو الآخر بالدعاء والرحمة.
ومع تغير الزمن ودخول البيوت الحديثة ذات النوافذ المحكمة والأبواب المغلقة، قلَّ ظهور المريوحة غير أن أثرها لم يغب عن المخيال الشعبي فما زال الناس إذا دخلت بيتا يقولون: «هذه روح فلان رحمه الله» بل امتد المعتقد ليشمل الطيور التي تحط على الشرفات أو العصافير الواقفة على النوافذ وكأنها جميعا رسائل لطيفة من الغائبين.
هكذا لم تكن المريوحة مجرد كائن ضعيف الجناحين بل صارت رمزا يربط الحاضر بالماضي ويجعل من الذكرى طقسا حيّا في بيوت القطيف فهي في الوعي الجمعي رسول ودّ ودليل على أن الفقد لا يقطع الحبل بين الأحياء والأموات بل يمده بالدعاء والرحمة وفي حضورها يتجلى إيمانٌ بأن الموت ليس نهاية بل صلة متجددة تُروى من جيلٍ إلى آخر.