د. باقر العوامي: مسيرة علمية ووطنية رائدة في طب الأطفال وأمراض الدم الوراثية
ببالغ الحزن والأسى، وبقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، تلقّينا نبأ رحيل العالم الجليل والأستاذ الفاضل، البروفيسور الدكتور باقر بن السيد حمزة العوامي، أحد أبرز روّاد طب الأطفال وأمراض الدم الوراثية في وطننا الغالي، ورمزاً من رموز الطب والبحث الأكاديمي الذين رفعوا اسم المملكة عالياً في المحافل العلمية.
إن رحيله يمثل خسارة كبيرة للمجتمع الطبي والأكاديمي، فقد كان رمزاً للعطاء، ومثالاً للعالم الملتزم بقضيته الإنسانية والعلمية، وصاحب بصمة خالدة في تأسيس كثير من المشاريع الطبية والبحثية ذات الأثر العميق على صحة المجتمع.
لقد كان – رحمه الله – مدرسة متكاملة، جمع بين العلم الغزير، والتربية الصادقة، والأخلاق العالية، فخرّج أجيالاً من الأطباء، وغرس فيهم حب المهنة والإنسانية معاً. وكان من الرواد الذين ساهموا في ترسيخ فكرة الفحص الطبي قبل الزواج، فكان سبّاقاً إلى طرح الحلول العلمية لمشكلات المجتمع، وهو إنجاز وطني خالد سيبقى صداه ممتداً عبر الأجيال.
كما ترك الفقيد بصمات لا تُمحى في مجال البحث العلمي، فقد أنجز أبحاثاً رائدة في أمراض الدم الوراثية والسرطانية، وأسهم في تأسيس مشاريع وطنية وبحوث استراتيجية جعلت منه مرجعاً علمياً يشار إليه بالبنان. ولم يكن طب الأطفال بالنسبة له مجرد تخصص، بل رسالة حياة، حملها بكل إخلاص وأمانة حتى آخر أيامه، سواء في قاعات الجامعة أو في عيادته الخاصة التي واصل فيها خدمة الأطفال والمرضى.
إن رحيل البروفيسور باقر العوامي لا يعني فقدان طبيب وأستاذ فحسب، بل فقدان قامة وطنية وإنسانية نادرة، جمعت بين الأصالة القطيفية، والوعي العلمي الحديث، والانتماء الصادق للوطن، والبذل اللامحدود في سبيل العلم والناس.
وإننا إذ نتقدّم بأحرّ التعازي وصادق المواساة إلى أسرته الكريمة، وإلى جميع تلامذته وزملائه ومحبيه، لنسأل الله العلي القدير أن يتغمّده بواسع رحمته، ويُنزله منازل الصالحين والأبرار، ويجزيه عن علمه وعطائه خير الجزاء، وأن يلهم أهله وذويه جميل الصبر وحسن العزاء
ولد الدكتور العوامي عام 1368 هـ في القلعة بالقطيف، وسط بيئة علمية وثقافية أصيلة. بدأ تعليمه الأولي على يد خاله الشيخ عبدالرسول بن حميد، حيث تعلم القرآن الكريم ومبادئ العلوم، قبل أن يلتحق بالتعليم النظامي، فيدرس الابتدائية بالقطيف، ثم المتوسطة والثانوية في الدمام. ومنذ طفولته كان شغوفاً بالعلم، باحثاً عن المعرفة، متطلعاً إلى خدمة وطنه.
في عام 1965 م، حصل على بعثة دراسية إلى ألمانيا لدراسة الطب. بدأ مشواره بالتخصص في الأمراض الباطنية، ثم اتجه إلى طب النساء والولادة، لكن سرعان ما استقر قلبه على ما أحبه حقاً: طب الأطفال، بتشجيع من زوجته السيدة كريمة الشاعر السعودي عبدالواحد الخنيزي. هذا الاختيار لم يكن مجرد قرار أكاديمي، بل تعبير عن شغف أصيل بخدمة الطفولة والمجتمع.
بعد إنهاء دراسته في ألمانيا عاد إلى المملكة، فالتحق بكلية الطب بجامعة الملك فيصل «جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل حالياً»، وعمل في مستشفى الملك فهد الجامعي بالخبر. تدرج في مناصبه الأكاديمية حتى حصل على درجة الأستاذية «بروفيسور» بجدارة، ليصبح أحد أعمدة التعليم الطبي في الوطن.
لم يكن مجرد أستاذ جامعي، بل مربياً موجهاً، حمل همّ بناء جيل من الأطباء الأكفاء، وغرس فيهم قيمة الإنسانية إلى جانب المعرفة.
• أنجز العديد من الأبحاث العلمية المحكمة في مجال طب الأطفال وأمراض الدم.
• خصّص جهده لدراسة فقر الدم المنجلي، أحد أكثر الأمراض الوراثية انتشاراً في المنطقة الشرقية.
• قدّم مقترح الفحص الطبي قبل الزواج إلى وزارتي الصحة والعدل، وهو المقترح الذي تحول لاحقاً إلى تشريع وطني أنقذ آلاف الأسر من المعاناة.
• حصل على دعم من مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية لتمويل مشروع بحثي كبير بقيمة 4 ملايين ريال حول أمراض الدم الوراثية.
• أجرى مقارنة تاريخية وعلمية بين مرض فقر الدم المنجلي في المملكة ونظيره في إفريقيا، مما وضع الطب السعودي على خارطة البحث العلمي العالمي.
• ترأس لجنة تقييم المستشفيات في الوطن العربي لثلاث سنوات متتالية.
• مثّل المملكة في مؤتمرات طبية دولية، ناقش خلالها قضايا صحية مؤثرة تخص الأطفال وأمراض الدم.
• حاز اعترافاً دولياً بفضل إسهاماته العلمية في فهم أمراض الدم السرطانية والوراثية.
لم يتوقف عطاؤه عند حد التقاعد، بل افتتح عيادة خاصة للأطفال في القطيف، واصل من خلالها رسالته الطبية. كانت عيادته إضافة نوعية، إذ جمعت بين خبرته الأكاديمية الطويلة وممارسته العملية اليومية، فكان ملاذاً للمرضى وأهاليهم.
• الدكتور حسن البريكي وصفه بأنه طبيب عالم جسور ورائد في البحث العلمي، وصديق وزميل ووطني مخلص.
• الدكتور محمد سعيد آل مدن رآه أستاذاً ملهماً لم يبخل يوماً على طلابه وزملائه بالنصح والإرشاد.
• الدكتور عبدالجبار آل محمد حسين أكد على طيب أخلاقه وروح القيادة والفكاهة التي ميّزته.
• الدكتور عبدالله العبيدان اعتبره من أقدم وأمهر أطباء الأطفال في المملكة، وصاحب إضافة كبرى للمجال الطبي والقطاع الخاص.
ترك الدكتور العوامي وراءه:
1. أجيالاً من الأطباء الذين تتلمذوا على يديه.
2. أبحاثاً رائدة في مجال أمراض الدم الوراثية.
3. تشريعات وطنية غيّرت وجه الرعاية الصحية في المملكة.
4. سمعة طيبة كشخصية أبوية إنسانية جمعت بين التواضع والعلم.
رحل البروفيسور باقر العوامي، لكن أثره باقٍ. سيظل اسمه محفوراً في ذاكرة الوطن كرمز للعطاء العلمي والإنساني، وكأحد مؤسسي مدرسة طبية رائدة في طب الأطفال وأمراض الدم الوراثية. فقد جمع بين العلم والإيمان بالإنسان، وكان منارةً مضيئةً في تاريخ الطب السعودي.
أيها الطبيب الإنسان، أيها العالم الجليل، أيها الأب الحاني…
رحلت اليوم يا بروفيسور باقر العوامي، لكنك تركت في قلوبنا سيرةً لا تُمحى. كنت للمرضى عوناً، ولطلابك معلماً وهادياً، ولزملائك أخاً وصديقاً.
لم تكن مجرد طبيب أطفال، بل كنت طفلاً كبيراً يشاركهم براءتهم، ويحنو عليهم بيدٍ من علم وأخرى من رحمة. لم تكن مجرد باحث، بل كنت ضميراً حياً ينادي بوجوب الفحص قبل الزواج لتُحفظ أجيال من الألم. لم تكن مجرد أستاذ، بل كنت مدرسةً في التواضع والإنسانية.
سلام على روحك الطاهرة، وسلام على ذكراك التي ستظل منارةً تضيء لنا الطريق. فقد كنت لنا جميعاً أباً وأستاذاً وقدوة.
نم قرير العين، يا من جعلت من الطب رسالة حياة، وجعلت من العطاء ميراثاً للأمة.
سلام على روحه الطاهرة، ووفاء لذكراه، وتقدير لعطائه الذي لا يُنسى.