من يضبط أسعار الكشف الطبي؟
أثار تقرير نشرته صحيفة «الوطن» قبل أيام عن وصول أسعار الكشف الطبي الاستشاري في بعض المستشفيات الخاصة إلى 500 ريال وقد أحدث موجة واسعة من الجدل بين المواطنين، إذ تحولت زيارة الطبيب من خدمة أساسية إلى عبء مالي يرهق الأسر متوسطة ومحدودة الدخل. وبينما يبرر الأطباء والمستشفيات هذا الارتفاع بتكاليف التشغيل والخبرة النادرة، يظل المواطن في النهاية الحلقة الأضعف أمام فاتورة لا يملك خيارًا حقيقيًا لتفاديها.
ومن هنا يبرز سؤال جوهري: من الجهة التي ينبغي أن تتدخل لتصحيح هذا الخلل؟
الجواب المنطقي يكمن في مجلس الضمان الصحي، باعتباره الجهة التنظيمية التي تشرف على التأمين الصحي وتضمن حقوق المرضى. لكن دوره الحالي يتركز على تنظيم عقود التأمين فقط، من دون تدخل مباشر في تسعير الكشف الطبي، وهو ما يفتح الباب أمام مبالغات لا سقف لها. المجلس يمتلك صلاحيات إشرافية على شركات التأمين، ويمكنه من خلال لوائحه أن يربط بين تسعير الخدمات الصحية وبين نسب التغطية التأمينية. فإذا وضع المجلس نطاقًا سعريًا استرشاديًا للكشف الطبي الاستشاري - مثلًا بين 150 إلى 250 ريالًا - سيتحقق توازن معقول يمنع المستشفيات من فرض أسعار مبالغ فيها، ويحافظ على حق الأطباء في أجر عادل، ويتيح للمريض رؤية واضحة لما سيغطيه التأمين وما سيتحمله من جيبه.
النماذج الأوروبية تقدم صورًا ناجحة يمكن الاستفادة منها. ففي فرنسا تحدد الدولة السعر الرسمي لزيارة الطبيب العام بثلاثين يورو فقط، ويغطي التأمين الصحي الوطني 70% من هذا المبلغ، بينما يغطي التأمين التكميلي أو المريض النسبة الباقية. النتيجة هنا أن السعر موحّد وواضح ومتاح لجميع المواطنين. وفي ألمانيا يعتمد النظام الصحي على جداول أسعار وطنية تُعرف باسم EBM, تحدد تكلفة كل خدمة طبية بدقة، وجميع شركات التأمين الصحي القانونية تلتزم بها. وهذا يضمن أن يدفع المريض أسعارًا عادلة ومحددة سلفًا من دون تفاوت كبير بين طبيب وآخر. أما في بريطانيا، فالكشف عند الأطباء العامين مغطى بالكامل من خلال NHS, بينما في القطاع الخاص يُلزم القانون العيادات بالإعلان عن أسعارها بوضوح قبل تقديم الخدمة، ما يعزز الشفافية ويمنح المريض فرصة للاختيار الواعي.
لا يعني ذلك أن تُحدد المملكة سعرًا واحدًا جامدًا للكشف الطبي، فظروف السوق مختلفة، لكن يمكن لمجلس الضمان الصحي أن يعتمد نموذجًا وسطيًا يقوم على وضع نطاق سعري استرشادي للكشف الاستشاري، وإلزام المستشفيات بالشفافية والإعلان المسبق عن أسعارها، وربط هذه الأسعار بالتأمين الصحي بحيث يغطي التأمين نسبة أساسية من السعر المرجعي المعتمد، إضافة إلى إطلاق برامج دعم للفئات محدودة الدخل بالشراكة مع المستشفيات الخاصة أو الجمعيات الخيرية الصحية.
إن ارتفاع أسعار الكشف الطبي في المستشفيات الخاصة ليس مجرد قضية اقتصادية، بل هو تحدٍّ اجتماعي وصحي يمس المواطن وحقه في العلاج. الحل يكمن في توسيع دور مجلس الضمان الصحي ليشمل تنظيم الأسعار وربطها مباشرة بالتأمين، على غرار ما يحدث في بعض الدول المتقدمة صحيًا. بهذه الخطوة يمكن تحقيق العدالة للطبيب والمريض معًا، وضمان أن تبقى الخدمة الطبية متاحة للجميع لا حكرًا على من يستطيع دفع الفاتورة.