آخر تحديث: 25 / 9 / 2025م - 2:37 ص

خُدوش

عندما يداهم أمر جلل وتهب معه ريح الهموم تجد الفرد في هذه المحطة على مفترق طرق، وتتفاوت ردات الفعل وطريقة التعامل مع هذا الألم بطرق مختلفة تعكس مدى نضجه الفكري واتزانه النفسي والوجداني من عدمه، فهناك من ينهش في قواه ويفت في عضده ويوهن إرادته توارد الصعوبات والصدمات ويهتز كيانه ولا يقوى حراكا حتى يصل به الأمر إلى السقوط في أتون اليأس والنظرة التشاؤمية، وهناك من يتمالك نفسه ويستوعب الضربة الأولى ويجمع قواه وأوراقه ويبدأ في دراسة حجم المخاطر والأضرار وتقييمها، ويعمل جاهدا على إزاحة الركام والنهوض مجددا بعد تحديد نقاط الضعف والأخطاء الصادرة، وهذا ما يعني الاستفادة والتعلّم من التجارب الذاتية والمحطات الصعبة التي تلقي بظلالها الثقيلة، فالنضج والرشد العقلي ليس بوليد اللحظة الآنية والتجربة الوحيدة، بل هو نتاج تسلسل من التعلم والكسب بالنقاط وصولا إلى حالة من الحنكة والإدراك الواعي في التعامل مع الأهداف والعراقيل والعثرات والأخطاء والأزمات العاصفة، فما يلحق بنا من آلام وخدوش وندبات بعد كل محطة موجعة وأزمة ضاغطة وما تحمل في طياتها مجموعة من الدروس والعبر علينا اقتناصها وهضم معانيها واستيعابها؛ لتشكّل قناديل تنير دروبنا في المستقبل والتخطيط لمسارنا بعيدا عن الوقوع في نفس العثرات، وهذا ما يعطي معنى ومفهوما شموليا ومتعددا لمصادر التعلم والتربية والتألق في شخصية الإنسان، فالأمر لا يقتصر على الدورات المعرفية والمهارية في مختلف الحقول والاختصاصات، بل يشمل جانبا مهما يتعلق بالتجارب الفردية وكيفية توظيفها في المسار التكاملي وصولا إلى القوة والمنعة من السقوط، فالألم والمعاناة تشكل رافعة بنائية للذات وتراكم الخبرات والدروس في خط النضج الفكري والسلوكي، فالإخفاق حينما يشكل بؤرة صراع داخلي وعصف نفسي يفتك بقدرات البعض، نجد من يمتلك قدرة على التفاعل مع واقعه في كل أحواله حتى المرير منه؛ ليمثل محطة جوهرية لإعادة تشكيل ذاته تاركة ندبة الوعي والنضج والتعالي عن ردات الفعل الانفعالية المتهورة.

النمو والازدهار المعرفي لا ينشأ من منطقة الفراغ واللهو والتبلد الوجداني تجاه الواقع بكل تفاصيله، فالتجارب السابقة لوحة انتماء لمشهدية جديدة يمكن البناء عليها مستقبلا بعيدا عن أخطاء الماضي، فإعادة ترتيب الأوراق بعد بعثرة الرياح العاتية للأزمات والمشاكل والصدمات، تبرز مشهد التفسير والانتباه والمنظومة المعرفية والقيمية بعد استيعاب دروس صفعات الزمن.

وهنا تبرز مسألة تربوية تتعلق بكيفية تعامل الآباء والأمهات والمعلم مع أخطاء الأبناء وإعادة تصحيح الوضع من جديد بعد وضع اليد على وجه التقصير أو الخطأ، فالخطأ سقوط ولكنه آمن إذا تعاملنا معه بحذر ومتابعة وتقويم مستمر وصولا إلى نهوضه مجددا، فحمايته لا تعني الدلال الزائد والتدخل السافر في تفاصيل حياته، بل هي تعليمه تحمل المسئولية حتى عن أخطائه، فكل خطأ وسقوط يمكن إعادة صياغته ليغدو نورا وأملا وطوق نجاة في وسط لجج الحياة وتموجاتها، بعد أن خرج المتألّم بوعي وإدراك أفضل وأعمق وقد اكتسى باتزان نفسي ووجداني.