آخر تحديث: 27 / 4 / 2025م - 1:09 م

هل من يعتبر..!

ياسين آل خليل

أمي الغالية، أنا أعلم أن الفراق صعب لكن كل منّا يتحدث من موقعه. أنا مقدر لك حزنك على فراقي، وأنا أشعر بأن شمسك التي كانت تضيء سمائك قد غابت إلى غير رجعة، وأن نهارك قد تحول إلى ظلام دامس. كما أني أدرك أن الوقت لم يعد كالوقت وأن كل شيء فقد طعمه منذ تلك الدقيقة التي سمعتي فيها خبر رحيلي. لكني لا أريدك أن تعتقدي ولو للحظة أني بعيد عن أحاسيسك وأنت تعلمين علم اليقين أني ولوٓقت ليس ببعيد كنت جزءًا لا يتجزأ منك.

إلا أني أريد أن أُطمئنك غاليتي بأني سعيدٌ جدًا لمفارقتي دنياكم. صحيح أني لم أحيا تلك السنين الطويلة لأكوّن ذلك ألكم الكبير من الخبرة فيها، لكنني وفي ذلك العمر القصير عاصرت شقاء دنياكم وتفاهتها في مُجمل مفاصلها وتفاصيلها. وقد تبٓيّن لي الآن بعد أن انتقلت الى الحياة الحقيقية الأزلية بعيدًا عن الزيف وعدم الإستقرار بأن أهل الدنيا غارقون في ترفٍ ونعيم زائف وهو لا محالة زائل، أما عن شهادتي في يوم الجمعة وأنا راكعٌ أصلي لتبْيٓان لا يقبل التوضيح بأن الصلاة هي عمود الدين وأنه عندما يكون توجهنا خالصًا لله لا شريك له فالممات حينها تطهير للإنسان من الذنوب فترتقي روحه للجنة وإلى النعيم الحقيقي الذي لم يخطر على بال بشر. فمن حقك اليوم يا أمي أن ترفعي رأسك عاليًا لأن الله أكرمك بأن اختار ابنك شهيدًا وفي بيت من بيوت الله وهو راكع يصلي.

أما لسان حال ذلك الزوج الذي فارق زوجته وعياله فلا يختلف كثيرًا عن ذلك الصٓبيّ ولسان حاله ينشد: زوجتي الحبيبة كنت أعلم أنك كنت تنتظرين قدومي بعد صلاة الجمعة لنجلس والعيال نتبادل أطراف الحديث حول مائدة الغداء التي أعددتها حسب طلبي، إلا أن القدر شاء أن يكون غدائي في الجنة وَيَا لها من هدية ربانية لا تقدر بثمن. زوجتي وأم عيالي عليك بالصبر والصلاة لأنها قرة عيني التي أوصلتني إلى النعيم الدائم. كما أني أوصيكم أحبتي من أهل بيتي وسائر المؤمنين على حضور الجمعة في بيوت الله وإن كان الخطر كبيرًا إلا أن الثواب أكبر. عليكم أحبتي بالإكثار من الصلاة على محمد وآل بيته لأنها ثقيلة في الميزان ولا يعلم مقدار فضلها إلا من مسّت قدماه جنان الخلد.

والدي العزيز أخوتي أخواتي وأصدقائي وأحبائي أهالي القطيف، صحيح أنكم كُنتُم تنتظرون ذلك اليوم الذي تروني فيه عريسًا وأن فراقي قد أوجعكم لأني لم أترك خلفي إبنًا تنظرون إليه كلما اشتقتم لي، لكني والله سعيد وسعادتي لا يعادلها شيء. فما أن فارقت دنياكم حتى زوجني الله بأجمل ما خلق من حور العين. فلا تحزنوا لفراقي واعلمُوا أنكم على حق والحق معكم ولن يخيّب الله مسعاكم. عليكم بالتمسك بكتاب الله وعترته أهل بيته حتى تظفروا برضاه ويحتسبكم من الفائزين بجنانه.

أما الكلمة الجامعة للشهداء والموجّهة لأهالي القطيف فكان لسان حالها يقول: أحبتي أهالي القطيف، يا قديح الإباء، كم نحن فخورون بكم وشاكرون مسعاكم الطيب وهبّتكُم كرجل واحد لخدمة الشهداء والجرحى من يوم الجمعة المباركة والتي اختار الله فيها أحباءه ليُودعَهُم الجنة مع أحب الناس إليه من خلقه محمد وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين. أحبتي نوصيكم بتقوى الله والسير على سيرة نبيه وآل بيته من بعده لأنهم مفتاح الجنان. إرفعوا رؤوسكم عاليًا وازدادوا فخرًا فأنتم الأعلون بما أنتم عليه من نعمة الولاية. أنتم اليوم مغبُوطون بل محسُودون ولو دارت بكم الدوائر. تمسكوا بمبادئكم لأنها لا بغيرها ترتقوا دنيًا وآخرة، احتسبوا تضحياتكم عند بارئكم، عندها لن يخذلكم وستُوفّون أجوركم يوم القيامة بما كُنتُم تعملون.

أما آخر الكلام فكان للمُغَرر بهم من أبناء هذا الوطن والذين أضاعوا بوصلتهم بسماعهم للمغضوب عليهم من الدواعش بأن يفنوا أنفسهم في قتل الأبرياء من المسلمين المسالمين وإغوائهم بأنهم سينتهون إلى الجنة دون حساب أو عقاب، فكان لسان حالهم نذيرٌ مبين: الإنتحاري الذي فجّر نفسه في وسطنا ونحن ركّع نُسبح الله بحمْده قد عرف نهايته ومقرّه في نار سَقَر وهو في انتظار أقرانه ومن أغووه ليعرفوا هم الآخرين أيُ مصير ينتظرُهم.

الكثير منهم يشهدوا بأُم أعينهم الفرق بين تلك الثُلة الناجية والذين هم في مقام عند ربهم عظيم، أحياءٌ عند ربهم يُرزقون وفي دُنياكم كيف هبّت لهم الأنفس من كل حدب وصوب في تجمُع مليوني لتشييع جثامين طاهرة وليرفعوا أسمى آيات التبريكات لتلك الأسر المحتسبة والتي كرمها الله بأن اختار من بينهم شهداء يعلوا بهم شأنهم وتقر بهم أعينهم لتستقيم دنياهم وتصلح بذلك آخرتهم. فهل من يعتبر..!