نشوء الأفكار
هل الأفكار سحاب يُمطِر بعضا من الناس، ويترك البعض الآخر يتضوّر ظمأ، من دون أن يشعر؟ ستجيب: كلا. هل الأفكار نبات ينبت تلقائيا في هذا الفرد، ولا ينبت في ذاك؟ وستجيب: كلا. لو كنت وحدك مثل حي بن يقظان هل تنبت فيك الأفكار، بعيدا عن الخيال الصوفي لابن طفيل وابن سينا؟ وستجيب: كلا. هل الأفكار «نور يقذف في القلب بعد المجاهدة؟» وستجيب: كلا. إذن كيف تنشأ هذه التي يسمونها أفكارا؟ إنها تنشأ من التفاعل مع الآخرين منذ الطفولة إلى آخر الحياة الفردية، وهذا التفاعل يختلف من فرد إلى آخر حسب موقع الفرد المعرفي، والقدرة على إدراك الواقع، والتوق إلى الأعلى، والأهم من هذا كله موقعه المادي. وهو أشدها تأثيرا في سلوك الفرد وفي فكره. وقد عبر عن ذلك أحد الشعراء، دون أن يدري، حين رأى بيت شوقي، وما يرفل فيه من مظاهر الترف: «ولو أني حللت مكان شوقي / لفاض الشعر من تحتي وفوقي»
وليس المهم ما عليه الفرد من الحالة المادية، بل المهم هو شعوره بتلك الحالة، وإدراكه العميق لأسباب التفاوت، مقارنة بالآخرين. إن الجندي الذي يحمل السلاح للدفاع عن مصلحة فرد لا يعرفه، ويقدم على قتل فرد لا يعرفه كذلك، ترى ما هو الدافع لوقوفه هذا الموقف اللاإنساني، بل الموغل في الحيوانية؟ إن لم تكن الحاجة المادية البائسة التي هو فيها. أما حين يدرك حالته، فلابد له من اتخاذ موقف مغاير لما هو عليه وإلا خرج من النطاق البشري.
كان الاقتصاد هو السبب الخفي للاختلاف بين البشر وإن لبس الأقنعة المضللة، وقد أدرك ذلك قائد ثورة الزنج علي بن محمد عام «255 هج» فهو من قال: «رأيت المقام على الاقتصاد / قنوعا به ذلة في العباد / إذا النار ضاق بها زندها / فقسمتها في فراق الزناد/ إذا صارم قر في غمده / حوى غيره السيف يوم الجلاد» وهذا التعبير عن الاقتصاد أقوى تعبير قرأته في تراثنا نظريا وعمليا. ذلك لأن علي بن محمد قاد ثورة الزنج ولم يقف عند هذا الإحساس الشعري الملتهب، بل قاد عمليا ثورة استمرت أكثر من أربعة عشر عاما ضد الدولة العباسية.