هيمنة المحتوى القصير: تأثيراته على التفكير السطحي والقدرة على التركيز النقدي
في عصرنا الحديث، ومع التسارع الرقمي الكبير، أصبحت الفيديوهات القصيرة والمحتويات المختصرة تهمين على منصات التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد، فمع ازدياد شعبية تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي كالتك توك، وإنستغرام ريلز، ويوتيوب شورتس، باتت المعلومات تقدم في قوالب قصيرة وسريعة وخاطفة، مما أثر بشكل مباشر على الطريقة التي يستوعب بها الأفراد المعرفة.
وعلى الرغم من سهولة الوصول إلى هذه المعلومات، إلا أن انتشارها الواسع وسرعة استهلاكها ساهمت في تعزيز أنماط التفكير السطحي على حساب التحليل النقدي المتأني.
ويقصد بالتفكير السطحي: الاعتماد على الانطباعات الأولية والمعلومات السريعة دون تعمق أو تحليل، حيث يتركز هذا النوع من التفكير على الظواهر الخارجية، كالعناوين الجذابة والصور اللافتة، دون التحقق من دقة المحتوى أو فهم خلفياته. ويظهر هذا جلياً في تفاعل الأفراد مع المحتوى القصير إذا تتخذ الأحكام خلال ثوانٍ معدودة.
أما التفكير النقدي: فهو قدرة عقلية منهجية تُمكن الفرد من تحليل المعلومات وتفسيرها وتقييمها، بهدف أتخاد قرارات مستندة إلى أسس منطقية وموضوعية. ويتطلب هذا النوع من التفكير وقتاً للتأمل، ويشمل التمييز بين الحقيقة والرأي، والتحقق من مصادر المعلومات، وفهم السياقات المختلفة.
يرى عدد من الباحثين أن من أسباب هيمنة المحتوى القصير تعود إلى عدة عوامل من أبرزها، طبيعة استهلاك الأفراد للمعلومات، حيث أصبح الكثيرون يفضلون المحتويات السريعة التي تتماشى مع نمط الحياة الحديثة وإيقاعها، كما أن خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي مصممة لتفضيل الفيديوهات والمحتوى القصير، لأنها تحافظ على تفاعل المستخدمين لأطول فترة ممكنة، مما يعزز من انتشاره الواسع، كذلك يلعب التأثير النفسي دوراً رئيسياً لتوفير المحتوى القصير متعة فورية والإشباع السريع، مما يجعله أكثر جاذبية من المقالات الطويلة أو المحتويات التحليلية المتعمقة.
تؤكد الدراسات الحديثة أن استهلاك المحتوى القصير يؤدي إلى تراجع القدرة على التركيز لفترات طويلة، فقد أشار تقرير صادر عن جامعة ميشيغان إلى أن الاستخدام المفرط لمنصات الفيديو القصير يقلل من مدة التركيز لدى الأفراد، ويجعلهم أقل صبراً على قراءة المقالات الطويلة أو متابعة البرامج التحليلية المتعمقة. كما أوضحت دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا أن الأشخاص الذين يعتمدون على المحتوى المختصر يعانون من تراجع في قدرتهم على الاحتفاظ بالمعلومات واسترجاعها، مما يؤثر سلبًا على عملية التعلم الطويل المدى.
وفي دراسة حديثة أجراها باحثون من جامعة تيانجين العادية بالصين عام 2025 م نشرتها صحيفة ”هندو ستان تايمز الهندية“ وخلصت إلى أن التعرض المكثف لمقاطع الفيديو القصيرة قد يؤدي إلى تراجع القدرة على التركيز وانخفاض جودة النوم، وقد شملت الدراسة 111 مشاركاً تتراوح أعمارهم بين 17 و 30 عاما، طُلب منهم مشاهدة ما معدله 95 دقيقة من مقاطع الفيديوهات يومياً لمدة شهرين، وأظهرت أن النتائج أن المشاركين أظهروا أنماط نشاط دماغي مشابه لحالات الإدمان، مع زيادة في النشاط في المناطق المسؤولة عن الانتباه والتركيز الذاتي، مما يشير إلى انخفاض القدرة على التركيز والاستمرارية الذهنية.
وفي دراسة أخرى نشرت بمجلة ”اتصالات الطبيعة“ لباحثين من الجامعة التقنية في الدنمارك أن أي ”هاشتاغ“ معين في عام 2013 م كان يبقى متصدراً لاهتمام الجمهور لمدة 17,5 ساعة في المتوسط، بينما في عام 2016 م انخفض هذا المتوسط إلى 11,9 ساعة، مما يشير إلى تزايد الرغبة في الحصول على معلومات أسرع ومحتوى جديد يومياً، ويبرز هذا بلا شك التأثير المفرط للمحتوى القصير، مما يجعل الأفراد أقل صبراً على قراءة المقالات الطويلة وغيرها من المواد المعمقة.
ويرى الكاتب الأمريكي نيكولاس كار في كتابه ”المياه الضحلة: ماذا يفعل الإنترنت بأدمغتنا“ نشر عام 2010 م، وهو مرجعً مهم في مجال الدراسات التي تتعلق بالتكنولوجيا وتأثيراتها على الإنسان، حيث تناول الكتاب تأثير الإنترنت، وخاصة المحتوى القصير السريع مثل الفيديوهات القصيرة، ووسائل التواصل الاجتماعي على أدمغتنا وكيف تشوش القدرة على التركيز العميق والتحليل النقدي.
وأخيراً أجرى ”مركز الأبحاث في العلوم العصبية بجامعة ستانفورد“ دراسة، تم التأكيد على أن التعرض المستمر للمحتوى المختصر يؤدي إلى انخفاض النشاط في القشرة الجبهية المسؤولة عن التحليل واتخاذ القرارات العقلانية، مما يجعل الأفراد أكثر عرضة للتأثر بالمعلومات السريعة دون التحقق من مصداقيتها.
وهنا نطرح هذا التساؤل: كيف يمكننا تحقيق التوازن بين استهلاك المحتوى السريع والحفاظ على مهارات التفكير النقدي؟
إن تحقيق هذا التوازن يتطلب وعياً عميقاً بطبيعة المحتوى الذي نتعرض له يومياً. فالانجراف خلف الإيقاع المتسارع للمعلومات قد يُضعف قدرتنا على التحليل والتأمل العميق، فالمحتوى القصير بطبيعته لا يتيح لنا فرصة كافية لفهم السياقات أو التعمق في التفاصيل. ومن هنا تبرز أهمية تبني أن نكون فاعلين، نمتلك القدرة على التفكير وطرح الأسئلة وتحليل ما نتلقاه من معلومات.
ويكمن جوهر الحل في تعزيز ثقافة رقمية جديدة، تقوم على الانتقائية الواعية في استهلاك المحتوى، ويتطلب الأمر أيضًا إعادة توزيع وقتنا بين الترفيه السريع والتفكير المتأني، وتدريب العقل على التوقف للحظات للتفكير المتأني والربط بين المعلومات، وبهذه الطريقة لن نسمح لتدفق المعلومات السريعة أن تعيق قدرتنا على التفاعل العميق مع الأفكار والمضامين، فالمفتاح لا يَكمن في كيفية تلقي المحتوى وفهمه، وليس في كثرته أو تكراره، حتى لا نفقد مرونتنا الذهنية وقدرتنا على التمييز واتخاذ القرارات المعقولة.
لقد غيرت هيمنة المحتوى القصير بشكل كبير من طريقة استهلاكنا للمعلومات، وأسهمت في تعزيز نمط من التفكير السطحي نتيجة تقديم الأفكار في قوالب مختصرة وسريعة، وعلى الرغم من أن هذه المقاطع القصيرة والمحتويات السريعة توفر وسائل مبسطة وسهلة لنقل المعلومات، فإن آثارها السلبية على التحليل النقدي والقدرة على التركيز لا يمكن إنكارها، من هنا تبرز الحاجة إلى البحث عن توازن واعٍ بين استهلاك هذا النوع من المحتوى والسعي وراء المعرفة العميقة التي تنمي فينا مهارات التفكير النقدي التحليلي الموضوعي،
لذا من الضروري أن نبحث عن التوازن بين استهلاك المحتوى السريع والبحث عن المعرفة العميقة التي تُنمّي قدرتنا على التفكير النقدي والتحليل الموضوعي.
فهل نحن مستعدون لإعادة النظر في طريقة استهلاكنا للمحتوى الرقمي، والعودة إلى التفكير العميق بعيدًا عن فخ السرعة والانجراف وراء السطحية؟