آخر تحديث: 25 / 4 / 2025م - 10:38 م

ماجد الثبيتي يفهرس «خطوات التعامل مع مريض انتحاري»

محمد العباس * مجلة اليمامة

النصوص الانتحارية مُحفوفة بالاعتبارات الأخلاقية والتحديات الفنية، سواءً كُتبت كمراودة ذاتية أو كإيحاءات غيرية. فقد تُفهم على أنها دعوة لتدمير الذات أو تحريض الغير على فعلها. بالنظر إلى ما تحمله من أحاسيس اليأس والعزلة والبؤس والعدمية. وإذا كانت في جوهرها تحمل قيم التعاطف والرغبة في فهم أعماق اليأس البشري، إلا أنها من الناحية الأدبية قد تُضفي طابعًا رومانسيًا على فعل الانتحار أو حتى تشجعه. الأمر الذي يموضعها في خانة الكتابة الحرجة.

وفي ”خطوات التعامل مع مريض انتحاري“ يغوص نص ماجد الثبيتي في العالم الداخلي لشخص يُكافح ضد أفكار انتحارية. وفيما يُشير العنوان إلى نهج سريري إجرائي، يتخذ النص لبوسًا شعريًا مؤانسًا. حيث يُعطي الأولوية للتجربة الذاتية المشعرنة للمريض على حساب التدخلات الرعائية الملموسة. وهذا الاختيار الأسلوبي هو الذي يؤسس لمفارقة في صميم الحالة الشعرية. فبقدر ما تبدو الأعراض المرضية قوية ومزعجة، يُثير النص على الجانب الآخر تساؤلات ذات طابع شعري حول غرضيته وفعاليته. وهو أمر لا يتأتى إلا بقراءة النص ككتلة نصية، كما تفترض قصيدة النثر، التي تُكتب بموجب هذا الشرط. أي ككتلة نص مقولبة في وحدة موضوعية.

إنه نص مستمد من حركية الواقع. ويقوم في مضمونه على الخيال والتعاطف. ورصد نضالات المريض الداخلية وتشكلات روحه المتألمة. وفي تركيبه الشكلي، يتهيكل في بنية مجزأة، باستخدام نقاط مُرقمة كقائمة مرجعية سريرية، تتناقض بشكل ساخر مع المحتوى الفوضوي والعاطفي للذات العليلة التي يتبأر النص حول عطبها النفسي. حيث يبرز هذا الانفصام الشعري من خلال تنهيج الخطوات الإجرائية لتجربة إنسانية مُعقدة في قالب شعري. بحيث تولد تلك النقاط المُرقّمة إحساسًا بالرغبة في فهرسة خطوات المريض الانتحاري بدلاً من رعايته. وهنا يكمن مذاق النص، الذي كُتب على مهاد نفسي، استوجب بالضرورة لغة نفسية، تحتمها قصيدة النثر من خلال فورية الإحساس، وإيقاع سردية الكلام الطبيعي، وحميمية اللغة المنطوقة، المولدة لنبرة حوارية.

وهكذا يتجوهر النص، عبر لغة بينصية تأخذ من المعجم الطبي ما يمكن شعرنته، والعكس، أي توظيف الشعري في إعداد قائمة أعراض نفسية. بمعنى موازاة اللغة السريرية بما يتخللها من الصور الشعرية. وذلك من خلال عبارات تشخيصية ”يبكي من سوء طعم الحياة. يلمس بأطراف الأصابع خيالاته“. وكذلك عبارة ”هادئ السلوك، عادي المظهر.“. إلى جانب أوصاف تحيل إلى اضطرابات داخلية مثل ”يخدش الأصوات التي في رأسه باستمرار“ و”يدور كعاصفة داخل غيوم دخانية“. وصولًا إلى العبارة المشهدية الفائضة بالتصوير الشعري ”متأنِّقاً برَبْطَةِ عُنِقٍ طويلةٍ، من شَرْشَفٍ مُتَّسخٍ ككلمة جافةٍ في جملة وداع“. حيث اللغة الصارخة التي لا ترحم، العاكسة بصدق شدة المشاعر التي يتم تصويرها.

وغالبًا ما تكون تلك الصور معتمة ومُزعجة، بالنظر إلى ما تحيل إليه من يأس المريض وعدميته. حيث يقيم على ”حافة العالم“. وهو الهابط بسرعة فائقة نحو ”الهاوية البيضاء“ و”النار في ملابسه“ وكأنه ”يتخيل حريقًا في ثيابه“. وكل تلك رموز قوية لأفكار المريض الانتحارية ومشاعر اليأس والعزلة. وبقدر ما هي أعراض مرضية هي تصويرات شعرية. وهنا يتموضع ماجد الثبيتي في موقع المشخّص الواصف، الذي يراجع كتيب التوصيات السريرية، فيما يتأمل المريض الانتحاري وحيدًا ”ولا أحد معه في هذا العالم“. حيث لا يقلل التقارب الجسدي ”لا يجب تركه بمفرده“ من حدة شعوره بانتفاء وجود التواصل والتعاطف الحقيقي.

إحدى الخصائص الرئيسية لقصيدة الانتحار هي صدقها العاطفي الخام. ولذلك تبدو أحد أكثر الجوانب إلحاحًا في النص قدرته على إثارة التجارب والعواطف الحسية. وذلك بالتركيز على فكرة إدراك المريض المُشوّه للواقع. فقبضته على الزمان والمكان ضعيفة ”كلما كان إدراكه للزمان والمكان سليمًا، كان أقرب للسقوط من على الحافة“. كذلك إحساسه بالعالم الخارجي يتضاءل أمام شعوره الداخلي. وهي إشارات تضاعف البعد التشخيصي للمريض. وفي الوقت الذي يقدم فيه الثبيتي بناءً شعريًا قويًا لا يطرح أي استراتيجيات لمنع تدهور حالة المريض.

من ذلك المنطلق الشعري يعلن الثبيتي تخليه عن الدور الاعتنائي الإرشادي، وكأنه يقدم نصًا يخالف بروتوكول الرعاية حين تتماهى ذاته كشاعر مع مراودات الذات الانتحارية، وكأن المريض الانتحاري هو الشاعر نفسه. فينهي النص بتوصية ”شخصية غير ضرورية“. وذلك من خلال عبارة تقريرية وغامضة في الآن نفسه ”افعلها يا رجل“. الأمر الذي يفجر اشكالية غائية النص. فنصوص الانتحار لديها القدرة على إثارة الفكر، وتحدي افتراضاتنا، وتعميق فهمنا لأنفسنا والعالم من حولنا. ومع ذلك، هي منطقة وعرة وحساسة محفوفة بالتعقيدات الأخلاقية، ويجب التنقل فيها بحذر ووعي واحترام عميق لقوة الكلمات.

ناقد وكاتب