عميد سنابس وبوح الذاكرة
مكبلاً بالحزن، غارقًا في الألم، أذرف الدمع حسرات على رحيل والدتي التي غادرت دنيانا الفانية يوم 25 رمضان، وبينما أتلو الفاتحة على قبرها قبل بضعة أيام برفقة زوجتي، نهضتُ أتبعها وهي تفتش بين القبور عن منازل أعزائها الذين رحلوا وخلفوا في قلبها أوجاعًا.
صدفةً التقت مع الأخت أفراح أبو عبد الله، أحضان وقبلات بينهن، وكل واحدة تخاطب الأخرى: ”أهلاً بنت خالتي“ «قرابة نسب بين الأمهات». بعد التحيات والسلامات، بدوري سألتها عن أبيها الأستاذ جعفر وأخيها الأستاذ موسى، فأجابتني: ”كلهم الحمد لله بخير“، ثم تنحيت جانبا أتأمل امتدادات القبور وأخبرتني زوجتي بأن وجه ابنة خالتها ارتسم عليه الأسى وصوتها يشوبه التوجع وكأنها تشتكي من مرض ما، ظانّة بأن أجواء المقبرة منعكسة على محياها حيث لا يدعو المكان الا لتقطيب الجبين وارسال التنهدات وأخذ العبرة والعِظة، وإذا بها تخبرها بصوتها المتأوه:
”الله يكون في عون عمي أبو عادل، يرقد في العناية المركزة، غائب عن الوعي منذ أيام!“
دعوات قلبية له بالشفاء العاجل. عند مغيب الشمس بدأت المقبرة تخلو شيئًا فشيئًا من مرتاديها إلا من سُكّانها الدائمين، تُبتّل عند الشفق: «الدوام والحكم لله».
عند المساء أتأمل صورتي المرسلة عبر الواتس من الأخ حسين الجيراني، فأجبته حالاً بكلمات سريعة: ”أهلاً أبو يونس، أيام مضت، أيام الشباب، تلك أجمل السنوات من 1982 إلى 1992 م في رحاب“ جامعة ”الإمام مسلم بسنابس والصحب الجميل مع ثلة من مدرسي البلد، منهم من شاخ وهرم ومنهم من قضى نحبه“. عقّب بكلمات قلبية يدعو لي بطول العمر.
أترجح بين الحزن العميق واللا حزن، والحالة الأولى هي السائدة أغلب الوقت. يحاول المقربون مني من أهل وأصحاب إخراجي مما أنا فيه.
وبينما أتعافى بعض الشيء من وضعي النفسي المتقلب، إلا ويأتيني خبر يغرقني في الحزن حد الثمالة على رحيل إنسان عظيم في نظري، ومفاد الخبر الموجع الذي استقبلته ظهر أمس: «الحاج المعلم عبد الله يوسف محمد أبو عبد الله في ذمة الله».
أغمضت عيني، أدعك رأسي أسىً، وصور أبو عادل تتابع في المخيلة، وبوخزة ضمير لفترة طويلة لم أزره، ولم أتمكن حتى من حضور تشييعه.
اليوم رحلت يا أبا عادل، وتركت في نفوس كل من عرفك ذكريات شتى ومواقف عدة، ماذا أقول عن إنسان أعتبره جزءًا من مسيرتي الوظيفية والأخوية والودية وحتى الفنية؟
يتشعب الكلام وتتفرع الشروحات عن سنين حافلة بالعطاء والإنجاز.
تعود بي الذكرى مع مطلع بداية العام الدراسي 1979 م، حيث كلفني الجار العزيز الأستاذ علي المضحي بكتابة لوحة خشبية لتأسيس مدرسة جديدة، أتممت اللوحة بخط الرقعة وعُلّقت على باب مبنى مستأجر يتكون من دورين بعنوان: «مدرسة الإمام مسلم الابتدائية بسنابس - تأسست عام 1399 هجرية».
حينها وصلتني تحيات وشكر من مدير المدرسة عبد الله يوسف أبو عبد الله بالثناء على ما صنعت وقتئذ، لم أكن أعرفه ولم ألتقِ به شخصيًا، وتشاء الصدف بعد تخرجي من معهد المعلمين للتربية الفنية بالرياض عام 1982 م «نهاية عام 1402 في شهر ذي القعدة» أن أباشر عملي في ذات المدرسة التي خططت أول لوحة للتعريف بها!
كان للأستاذ علي المضحي الدور الأكبر في توجيهي نحو المدرسة الجديدة، وحين أقول الجديدة فلأن في سنابس توجد مدرستان ابتدائيتان أسبق بكثير من تأسيسها وهما مدرستا عمار بن ياسر وبلال بن رباح، وقبل استلام خطاب مباشرتي للعمل سعى الأستاذ عبد الله يوسف بكل ما أوتي من قوة عند إدارة التعليم بإقناع المسؤولين وكسب ودي وعدم ذهابي لمدرسة ابن الأرقم بدارين، أمنية تحققت له وزعل مني آخرون، تصافينا لكن بعد طول عتاب.
عشر سنوات أمضيتها تحت إدارة إنسان يعتبرني كأني ابنه، أخاه الأصغر أو أحد أقاربه، عاملني بمحبة فائقة بل كنت بمثابة المعلم المدلل، نظرًا لقدرتي على تزيين المدرسة بالوسائل التعليمية شبه الدائمة.
بالنسبة لي أعتبر ذلك أوج نشاطي، حيث نفذت لوحات كبيرة للجهاز البولي والجهاز الهضمي وشجرة اللغة العربية والرياضيات، وكلها صناديق مضيئة بالأنوار، مكلفة في الجهد والمال، بالإضافة إلى تجديد لوحات واجهة المدرسة بين وقت وآخر، وأبرز كل الاشتغالات وسيلتي الأذن والقلب وهما للوحات الفنية أقرب.
فضلاً عن تصميم وكتابة الجدول المدرسي والصحف الحائطية وكذا وسائل العمل للرحلات المدرسية وتوزيع هدايا للمؤسسات الأهلية، وهي عبارة عن قطع بلاستيكية مكتوبة بخط الثلث لبعض الحكم والآيات.
بهكذا إنجاز خصّني مدير المدرسة بمعاملة خاصة، وأقولها صادقًا كان يتجاوز عني ولا يسامح الغير، على سبيل المثال لا الحصر، إذا كان الدوام الشتوي أو الصيفي مبكرًا أو متأخرًا، أحضر بعد نصف ساعة على بدء الدوام ويترك دفتر الحضور ولا يغلقه إلا بعد أن أوقّع ويكون اسمي آخر الأسماء، حالات استثنائية إذا أتى أحد المشرفين التربويين مبكرًا حين يلحظه قادمًا يضع الخط ويوقع منعًا للإحراج، في العادة يخلو جدولي من الحصة الأولى، وذات مرة ذهب لي وقت الفسحة وأنا أتناول فطوري في بوفيه بجوار المدرسة وقال لي وهو على عجل: ”ترى موجه التربية الفنية إبراهيم حمودة ينتظرك في الإدارة إذا ما تريد تقابله على راحتك!“
وأتذكر غبت عن المدرسة مرتين أو ثلاث وربما أكثر نتيجة السهر المفرط، يأتي لبيتنا ويطرق الباب وتناديه أمي فيأمرها بإيقاظي حالاً من النوم فيأخذني بسيارته معللاً بغياب أكثر من مدرس، لا يوبخني بل يخاطبني بود واحترام وتقدير. وهذا يدل على وعيه في كيفية التعامل مع المدرسين وكيف يكسب ودهم نتيجة خبرته الطويلة خصوصا تجاه شاب حديث التخرج لم يعِ بعد قيمة المسؤولية،
اذ لم يتجاوز عمري حينها الثالثة والعشرون، وأيضا يدرك بأن وسائل الإيضاح اشتغلتها من وقتي الخاص خارج الدوام المدرسي وأحضر للمدرسة عصرا، فتعويضا عن ذلك كان يتساهل معي بشكل خاص، لا بشكل عام، شديد على بقية المدرسين في انضباط الوقت.
”أستاذ عبد الله يوسف“ هو اللقب الذي عُرف به عند المدرسين والطلبة، لديه ثقة تامة في تنفيذ أي وسيلة تخدم المدرسة مهما كانت التكلفة المادية، وسعي حثيثا في كسب المؤسسات الأهلية لعمل كراسي وطاولات للفصول، وقد لعبت مؤسستي حبيب العسكري وأبو بليغ اليوسف الدور الأكبر في ذلك.
حين أشرت على أبي عادل بتوفير غرفة خاصة للتربية الفنية لم يتوانَ في توفير ذلك، تم بناؤها فوق سطح المدرسة من «الشينكو والخشب» مع مكتبة للمطالعة.
عبد الله يوسف كان تواقًا لجعل مدرسة الإمام مسلم مميزة علميًا وطلبتها من أحسن الطلبة، بأسلوبه الحسن وفطنته اللّماحة باستجلاب خيرة المدرسين في كل مادة سواء الإخوة العرب أو السعوديين وبالأخص أبناء المنطقة مما انعكس في جودة المخرجات.
بالمقابل أي مدرس لا يقتنع بعطائه ينقله بالتي هي أحسن لمدرسة أخرى، وكم حزن حين تم نقلي بدعوى تدوير حركة المدرسين حسب مقتضيات الحاجة لمدارس أكبر تعاني من نقص المتخصصين.
جاهد واستمات لإبقائي لكن دون جدوى، وبعد سنوات يأتي الدور عليه، فقد تم نقله مجبرًا لمدرسة الأنصار في تاروت، وفيها قضى بضعة سنين إلى أن أُحيل للتقاعد بعد بلوغه السن القانوني، وقبل المدرستين المذكورتين كان مديرًا لمدرسة عمر بن عبد العزيز برحيمة نهاية الستينات الميلادية.
عبد الله يوسف ببنيته الضعيفة وطوله الفارِع كان الساعد الأيمن للطلبة الضعفاء، يمدهم ماديًا ومعنويًا ودراسيًا، وهو الأدرى بالعوائل المتعففة، عطوفًا على الطلبة وإن صدرت منه بعض الغلظة لكن في محلها، تمامًا مثل حرص الأب على أبنائه خوفًا على مستقبلهم، يريدهم متفوقين منضبطين، ومواطنين صالحين للبلد وخدمة المجتمع، وبالفعل خرجت مدرسة الإمام مسلم على عهده خيرة الطلبة المميزين، ولا أدل على ذلك من شهادة أحد طلابها وهو المعلق الرياضي زهير الضامن الذي قال صباح يوم تشييعه لمثواه الأخير:
”وداعًا أبا عادل، الرحمة والمغفرة إلى المربي الفاضل الأستاذ عبد الله يوسف أبو عادل الذي أخلص في عمله في جعل مدرسة الإمام مسلم من أفضل المدارس في الانضباط وتخريج الكفاءات، فكان وما زال نموذجًا للمدير الحريص كل الحرص على الطلاب، يظهر الشدة والقسوة ويخفي نهرًا من الحب الكبير لكل الطلاب خصوصًا أبناء الفقراء، يتمنى لهم الاستمرار في الدراسة لكي يصنعوا مستقبلهم، لتغيير وضعهم، من صفاته التي تفرد بها هي علاقته مع كل آباء وأمهات الطلاب وكونه من سنابس كان يعرف كل العوائل والأُسر وأحوالهم المادية، وكان يهتم بتوفير الملابس للطلاب ذوي الدخل المحدود فكان يقدمها على أساس أنها جائزة حصل عليها الطلاب من خلال مشاركاتهم في النشاط المدرسي، يعطينا كروتًا نذهب بها إلى الخياط من أجل تفصيل ثوبين لكل طالب وكانت هذه مع بداية كل سنة دراسية، ولا أنسى أيضًا الرحلات التي كان تنظمها المدرسة سنويًا وخصوصًا رحلة الأحساء وجبل قارة، هذا قليل من سيرته العطرة، كان يتمنى أن يرى كل طلابه متفوقين ومميزين، ومن الأشياء التي أتذكرها عندما تخرجنا واستلمنا الملفات من المدرسة لنذهب بها إلى متوسطة سنابس قال لنا وكيل المدرسة آنذاك الأستاذ والمربي الفاضل عبد الرؤوف الرويعي: طلاب مدرسة الإمام مسلم يقفوا هنا وطلاب مدرسة بلال بن رباح يقفوا هنا، استلم ملفات الإمام مسلم أولاً، دارت الأيام وفي إحدى الحصص دخل علينا لعدم وجود مدرس وبعد الانتهاء من إعطائنا درسًا في مادة الرياضيات قال: من لديه سؤال؟ فسأله أحد الطلاب قال له: لماذا اخترت طلاب مدرسة الإمام مسلم أولاً؟ فقال: من خلال عملي في مدرسة سنابس المتوسطة عرفت أن طلاب الإمام مسلم دائمًا متميزين ومتفوقين وهذا بفضل مدير المدرسة وكافة المدرسين“.
الحديث طويل عن هذه الشخصية التي أعطت الكثير لبناء الإنسان.
رحم الله المربي الفاضل الأستاذ عبد الله يوسف أبو عبد الله رحمة الأبرار وحشره الله مع النبي محمد وآله الطيبين الطاهرين.
والصبر والسلوان إلى عائلة أبي عبد الله الكرام في فقيدهم الغالي.
ستبقى ذكراه خالدة في قلوب طلابه.
هذا غيض من فيض، فغالبية الطلاب الذين درستهم وأقابلهم بين وقت وآخر يفخرون به معلمًا ومربيًا ومديرًا، وثمة حنين لديهم لأيام المدرسة في عهده، وربما لا يعرف بعض طلابه بأنه كان قائدًا كشفيًا.
هذا ما قاله الأخ سعيد آل طلاق، المنخرط في الكشافة منذ صغره ويعرف القادة على مستوى المملكة، حيث يقول: ”اليوم الخميس 17 أبريل 2025 نودع القائد الكشفي الأستاذ عبد الله يوسف أبو عبد الله «أبو عادل» رحمه الله، أحد رواد الحركة الكشفية بالمنطقة الشرقية، نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته ويلهم أهله وذويه الصبر والسلوان، إنا لله وإنا إليه راجعون“.
وعودة للأيام الخوالي في عهد الصبا، كان عبد الله يوسف حارس مرمى لفريق الهلال «النور حاليًا»، وامتهن التحكيم في أوقات الفراغ وهو مدير لمدرسة الإمام مسلم، لموسمين رياضيين وترك التحكيم، وسألته: لماذا تركت ولم تستمر؟
أجابني: ”من كثرة اللعن والشتم من بعض اللاعبين المتعصبين، تركت هالشغلة اللي ما فيها إلا وجع الرأس“.
ألفيت أبا عادل محبًا للمنتخب السعودي ويزعل جدًا عند الخسارة ويفرح جدًا في حالات الفوز، بل دعا لوليمة جامعة باسم مدارس جزيرة تاروت لغذاء أقيم في صالة عمار بن ياسر بسنابس بمناسبة فوز المنتخب السعودي بكأس آسيا لأول مرة سنة 1984 م.
أبو عادل شخصية مركبة ينطبق عليه أغنية: «جد ولعب وضحك وحب»، جاد بشدة في إدارة المدرسة مخلصا لأبعد حد، وفي المساء تراه شخصًا آخر يسهر مع المدرسين في لعب الورق وهات يا ضحك وسوالف، ويتبسط كثيرًا مع الصغير والكبير في المحلات والشارع حتى لتشعر بأنه ليس مديرًا بل شخصًا من أهل الله، متواضعًا أريحي الجانب، يخاطب الكل دون تكلف ولا يرسم هالة على نفسه بأنه مدير مدرسة، قفوا له التبجيلا، كم كسب قلوب الأهالي وأولياء الأمور حيث جعل من الإدارة أشبه بديوانية يأتي إليها الآباء والأجداد ليطمأنوا على أولادهم وأحفادهم، كاتب السطور وثق بعضًا من كبار السن الذين يتوافدون للمدرسة بتصويرهم في أوقات مختلفة من الأعوام الدراسية وغالبيتهم انتقلوا إلى رحمة الله. واللافت عند أبي عادل يجمع المدرسين بمناسبة أو غير مناسبة على وجبة غذاء في رحاب المدرسة بهدف الألفة وإشاعة المحبة بين الكادر التدريسي، يوزع هدايا التكريم على المدرسين وكذا الطلبة المتفوقين ويجزل الهدايا للمعلمين العرب قبل سفرهم لأوطانهم عند انتهاء العام الدراسي، وقبل انتقالي من رحاب مدرسة الإمام مسلم كرمني بحفل مبسط عام 1412، وحضر حفل تقاعدي عام 1440 هجرية، طبع قبلات على خدي تقديرًا وامتنانًا لشخص يعتبره كبيرًا في نظره، فرح أيما فرح مبتهجًا يرسل الضحكات أثناء تناول الغذاء والصالة ترن من قفشاته ومداعباته وقهقهاته، حينها غالبت دمعي وقلت في خاطري: عبد الله يوسف أعطى خلاصة عمره في التدريس وهو يعتبر من الدفعات الأولى للمدرسين في جزيرة تاروت، خدم الطلاب وبث فيهم روح الكفاح وتحقيق النجاح، تراه يفخر بالدكتور والمعلم والمهندس هذا وذاك بأنهم خريجوا ”جامعة الإمام مسلم“، دعم نادي النور وأحب الجميع، وكرم كثيرًا من المعلمين، ومع شديد الأسف حين تقاعد لم يكرمه أحد!!
تحية لمحياك الذي غاب عنا هذا اليوم وسلام على روحك الشفيفة يا عميد سنابس.
قرأت الفاتحة عصر هذا اليوم على قبر أمي وقلت لها في قلبي: يا يماه تذكري من طرق باب بيتنا قبل 44 عامًا وهو يقول لك: ”صبحك الله بالخير يا أم عبد العظيم يا مرحومة الوالدين، جلسي عظيم من النوم أبغاه يروح المدرسة“، اليوم جاورك بسبعة قبور، هل حيّيته مثل أول مرة تسمعي صوته؟ غاب صوت أمي عني وغاب صوت أول مدير لي في حياتي المهنية يحبني حبًا أخويًا خالصًا، أفخر بجلال قدره مثل وسام معلق على صدري، سلام على أرواحكم أيها الراحلون.