حكاية تليق بالبحر
”تعالوا نتكاذب قليلًا“
بمحاذاة شاطئ البحر، كان صديق جدي يقضم قصب السكر، وكنت أهمس له ببعض النكات فيضحك، وأحيانًا تفلت منّا قهقهة.
وقد لفت انتباهنا طير ضخم كالنسر يحلق فوق الماء، ينخفض ثم يرتفع، وكأنه يبحث عن قصة تليق بالبحر يرويها لنا في هذا المساء، تابعناه خلف السفن التي تنقل النفط، حتى انقضَّ على سمكة بدت مستلقية على ظهرها، تتشمس بكسل لا يليق بالبحر.
التقط شيئًا صغيرًا من فمها، وعاد يطير مسرعًا، لكنّ حظه خانه وجعله يرتطم بطائرة ركاب تطير منخفضة فوق رؤوس النخيل، وسقط من فمه حجر أسود مربع، سقط في يدي التي مددتها لمصافحة طفل رضيع يقف بالجوار.
التقط صديق جدي الحجر من يدي، وفركه بقوة في التراب، فعاد ابيضًا يلمع، وتتوزع فوقه نقاط سوداء، كعبيد يسبحون في بركة حليب.
راح يتأمل الحجر المربع المنقّط، ثم ينظر للبحر ويعود ينظر لي، وهو يقلب الحجر بين يديه ويضحك.
قال: هذا حجر نرد، سقط من يد جدك يوم كنّا في رحلة غوص، في طريقنا إلى أمريكا.
قلت له: كيف عرفته؟
قال وهو يعيد شمّه: رائحة البصل.. كان جدك يقطّع البصل وهو يلعب بالنرد، والرائحة التصقت بالحجر.
أخذت الحجر من يده وشممته، وإذا برائحة البصل الهندي نفّاذة، وكأنه لمسها بيده التي قطّعت البصل قبل لحظات.
ضحك وهو يقول: كنت أغسل الأرز بماء البحر بعد إضافة السكر له، وكانت لعبة «سلم/ ثعبان» تسليتنا الوحيدة.
أسند ظهره لجذع شجرة الموز وأضاف: ذات سفرة خرج علينا حوت بحجم «جزيرة تاروت»، وابتلع سفينتنا، غضب جدك، وألقى بالحجر في معدة الحوت، ففزع الحوت ولفظ السفينة إلى أقرب يابسة، ولا نعلم أين سقط الحجر.
سكت قليلًا وكأنه يشاهد بثاً مباشراً، ثم أكمل: كانت تلك بلاد العجائب حقًا، رجالها خلقوا بعين واحدة في منتصف الجبهة، ونسائها لا تزيد أطوالهن عن نصف متر، وحجم الفواكه والخضروات أضعاف ما عندنا، حتى أن ورقة شجرة العنب كافية لتغطي جسدك من رأسك لقدميك.
قلت: وكم بقيتم هناك؟
أجاب بهدوء وكأنه يقرأ من كتاب: النوخذة رفض البقاء، كان يحمل بضاعة مستعجلة، يجب أن نسلمها في موعدها الذي لم يتبقَ منه إلا سنة ونصف.
صفقت بكفي على فخذي وقلت: لم يحدثني جدي عن هذه المغامرة.
قال: لأنه أحب عشر فتيات من تلك القرية، فهو لا يحب تذكر تلك الأيام المؤلمة.
عدت إلى منزلنا، صعدت السلالم مسرعًا حيث يسكن جدي في الطابق الخامس والخمسين، فخرج لي حافي القدمين مكشوف الرأس، متعجبًا من ندائي وقد مرت 10 سنوات لم نتقابل.
قلت: لا تخف، جئت فقط أبلغك سلام صديق عمرك، «صادق».
قال: عليك و«عليه السلّام»، لقد أرسل لي مع غراب أبيض، يقول: إنه وجد حجر النرد، ويتحداني في لعبة «سلم/ ثعبان».
همست له وابتسامة عريضة تسبق كلامي: جدي، لم تخبرني عن قصة الحوت الذي ابتلع سفينتكم، ولا عن. «تلعثمت لأني نسيت اسم الجزيرة»
قال: أكمل.. هل تريد أن تعرف قصة السنوات التي عشناها في بطن الحوت؟ وعن الناس الذين التقيناهم هناك؟
قلت: سنوات؟ في بطنه؟ كيف؟
قال: كانت السفينة بيتنا، وكانت أرزاقنا تأتينا كل يوم، السمك، الفاكهة، الخضروات.. حتى النساء.
قلت متعجبًا: حتى النساء؟
قال مبتسمًا: نعم.. لقد رأيت سيدات يسبحن في بطن الحوت، وعندما دعوتهن لتناول الطعام، اعتذرن بأنهن صائمات.
صرخت: وهل كان هناك رمضان في بطن الحوت؟
ردّ بكل هدوء وهو يهز رأسه: بل كان الحوت نفسه صائمًا يومها.
سألته: كيف عرفتم عدد السنين؟
قال: خططنا أن نهرب حين يكون الحوت نائمًا، لأنه إذا نام يترك فمه مفتوحًا، وعندها سبحنا حتى وصلنا إلى جزيرة صغيرة، ووجدنا أن الصحف المحلية تؤرخ يوم وصولنا بعد عشر سنوات من يوم سفرنا.
ثم حدثني عن حبه الأول، كيف تعرف عليها، وأين رآها؟ وأنه دفع لها مهرًا لؤلؤة بحجم رمانة، كان قد أخرجها من بطن الحوت بنفسه.
سألته: هي جدتي؟
قال: أيهن؟
قلت: التي تزوجتها بعد الحوت.
قال: لا أتذكر من هي جدتك، تزوجت كثيرات حتى نسيت الأسماء، والوجوه.
قلت: ألا تتذكر جدتي؟
نظر إلى ساعته وكأنه لم يسمعني، وتثاءب، ثم ودعني وغادر وهو يقول: سلم/ ثعبان.. سلم/ ثعبان.. سلم/ ثعبان.
تلفت نحوي وهو يقول: لن أستسلم للثعبان ليلتهمني كما التهمني التمساح ذات يوم.
نظرت إليه وهو يبتعد… وقد اتجه إلى طريق آخر غير الذي كان يقصده، عندها أدركت أن التمساح قد التهمه فعلًا، لكنه كان تمساح الزمن.. وكأن الراوي يبحث عن حكاية جديدة تكمل قصته.