جوع العقل!
أثناء حضوري إحدى الورش وأثناء الاستماع للمحاضر، أحسست بفراغ وملل، حيث لم يكن لدي ذلك الشغف وتلقي المعلومة، أو حتى تلك القدرة على الاستماع، " وكأن الكلمات تُقال من فراغ إلى فراغ، دون روح، ودون معنى، كلمات محفوظة ومكررة لا تحمل بصمة تفرد ولا رائحة دهشة، لذلك عندما حصل النقاش حول الموضوع المطروح في الورشة، وتم تجاذب أطراف الحديث بين الحاضرين، وجرت المناقشات، والمداخلات، أحسست أنني عاجزة وكأني تفكيري قد توقف، حتى عندما طلب مني المشاركة وإعطاء مداخلة ورأي حول ما طرح، دخلت في حالة صمت، وكأني فقدت القدرة على التحدث بل المقدرة على الكلام.
فكل ما يقال في هذه الجلسة عبارة عن كلمات نسخت من أخرى باهتة، فالحوارات، هي حوارات سابقة محفوظة لا تحمل لهفة الاكتشاف، ولا تحملك على عناء التفكير.
فكان الجلوس معهم وبينهم عبارة عن تأمل للوجوه التي تتحرك والأفواه التي تنطق، لذا لم يكن هناك شيء يتحرك بالداخل، فكانت الكلمات تتساقط كتساقط أوراق الشجر الصفراء لا رائحة لها، ميتة لا تحمل حياة.
هنا وجدت حديثهم لا يمس العقل، ولا يربك القلب، كأنه قيل ليمضي الوقت، وحضور من غير معنى، تأدية واجب لا غير.
مضى الوقت ببطء ثقيل، ما أنقذتي من الخلاص، وعدم المتابعة هو ارتباطي، بمهام أخرى، أتاحت لي فرصة الاعتذار والانصراف من المكان،
خرجت متعبة لدرجة الإرهاق، لا لأنني أجهدت تفكيري، ومخي، بل لأنهم لم يحركوا فيه شيئًا.
”وتمضي من بينهم متعبًا، لا لأنهم أثقلوك بأسئلتهم، بل لأنهم تركوك بلا سؤال“.
تعب يشبه تعب الجوع، جوع العقل عندما لا يجد ما يقتات ويتغذى عليه.
بينما في زاوية أخرى من العالم تجد من يشبع عقلك بكلمة واحدة، وإن كانوا قلائل ممن تجدهم حولك، إلا أن هؤلاء عندما يتحدثون يغيرون من ملامح الوقت، وحين تجلس معهم، أو تستمع إلى حديثهم، أو تقرأ ما كتبوا في صفحاتهم كأنك التقط شرارة لفكرة هي انعكاس ظل لوعي ما،
هم لا يثرثرون كثيرًا ولا يكثرون من الكلام، بل يطبقون ”ما قل ودل“، كل جملة وكلمة تصدر منهم تربك تفكيرك، وتوقظ فيك شيئا كنت تظنه اندثر، ومات، معهم الأمر مختلف، فأنت لا تتلقى كلمات، بل تستقبل شفرات لحل الكثير من الألغاز الكامنة بداخلك.
فهم لا يتحدثون ليملأوا الصمت، وإنما ليفتحوا لك نوافذ جديدة على ذاتك، فيتركوك محاطًا بدهشة السؤال، فحين يغادرون لا يتركون فراغًا بل يتركونك ممتلئاً بحيرة التفكير.
فهؤلاء تجربة فكرية حية، تشبع العقل وتفتح له آفاق جديدة.
فحين تتحدث مع شخص يحمل وعيًا عميقًا، لا تشعر أنك تكرر أفكارك، بل تجد نفسك أمام تحدٍ فكري، لأن حديثه يحرك الأسئلة الساكنة في عقلك.
فالحوار هنا لا يهدف إلى إقناع أو تصحيح، وإنما إلى تنشيط الفكر والعقل، وتحفيزه وتحريره من قيود الجمود، نحو فهم أعمق وانفتاح على العالم من حولك.