الدافور: حين يشتعل الذكاء وتفور الحماسة!
إذا كنت من جيل ”الماء في التنك“ لصطالة ”" و“ الفصفص ”الحَبّ“ في كيس بلاستيك مقصوص ”، فأنت حتماً تعرف الدافور. لا، لا أقصد ذاك الطالب اللي يتنفس كتب ويشم دفاتر، بل أقصد الأصل، الجذور، الدافور الحقيقي… الموقد الحديدي اللي كان في زاوية المطبخ، متربعاً بشموخ على ثلاث أرجل، وتشتعل فيه الحياة ب“ صكة أو شخطة" كبريت واحدة. نعم، ذاك الذي كنا نختبئ من ناره إذا ارتفعت، لكنه كان السبب في كل طبخة طيبة وكل قهوة من الجدّة.
لكن كيف قفز ”الدافور“ من المطبخ إلى الصف الدراسي؟ وكيف صار الطالب المجتهد ”دافوراً“؟
وهنا تبدأ الحكاية، لا كحكاية شعبية تُروى حول جمر الشتاء، بل كحكاية اصطلاحية فيها ذكاءٌ ولهبٌ وفلسفةٌ مجنونة.
الدافور، ذلك الجهاز الصغير الذي كان يُسعِّر قلوب البطاطس في قدر، ويُطري حبيبات الأرز لتلين وتستوي، صار اليوم رمزاً لطالب ”مستوي“، لا بالرز بل بالعِلم. الطالب اللي يحترق من الداخل، لا بنار الغاز، بل بنار الحماسة والمذاكرة والسهر والاختبارات. هو ذاك الذي لا يبرد، لا يفتر، لا يطفأ، دائم الاشتعال، دائم الجاهزية، دائم ال ”أستاذ.. نسّيت تعطينا الواجب أمس!“
لكن لحظة… هل هذا مدح أم… غمزٌ لطيف؟
”دافور“ بيننا يحمل نكهة المزاح، فيها شيء من الغيرة، وشيء من الاحترام، وشيء لا بأس به من التنمّر الخفيف المحبوب. هو ليس شتيمة، ولا تماماً مديحاً… هو ما بينهما: ”يا أخي ريّح شوي، خلنا ننجح بعد، مو بس إنت!“
”الدافور“ اليوم لم يعد حكراً على الكتب، بل بات رمزاً لمن ”يطبخها صح“. شفت صاحبك اللي دايم يعرف الترند قبل ما يصير؟ دافور.
اللي يخطط لأسبوعه ووجباته ومصاريفه وهو في عز الفوضى؟ دافور.
اللي يتكلم عن الاستثمار والبورصة في مجلس كله سواليف؟ هذا يا صديقي دافور من نوع نادر، دافور بورصة.
الدافور أصبح كوداً سرياً للتميز المكثّف.
هو ذاك الذي يسبق الناس بخطوة، أو اثنتين، وربما يطبخ لهم خطواتهم قبل أن يخطوها، تماماً كما كانت أمه تطبخ له الفول قبل طلوع الشمس بـ ”دافورها“ في صمت القرية.
وراء كل ”دافور“ عينان محمرّتان، وظهرٌ يئن، وقلبٌ يتمنى لو أنه يوماً يصبح ”رايقاً“ بلا مواعيد، بلا أهداف، بلا ”فلان اعتمد عليك“.
الدافور لا ينام كثيراً، لا يفرح طويلاً، لا يرفّه إلا بنصف قلب.
ومع ذلك، فالحياة تبتسم له… لا لأنه دافور، بل لأنه رغم التعب، لا يطفأ.
في دواخلنا كلنا دافور صغير، لكننا نخشى اشتعاله، لأن النار مهما كانت مباركة، تبقى ناراً.
وهذا ما يميّزهم… أولئك الذين أشعلوا دوافريّتهم الداخلية، ولم يخشوا احتراق أطرافهم في سبيل النور.
تأملوا كيف أن كلمة كانت ترتبط بالنار، بالمطبخ، بالحطب، صارت ترتبط بالنبوغ، بالمثابرة، بالإبداع.
هنا يتجلى سحر اللغة الشعبية، حين تُحوِّل الجماد إلى استعارة نابضة.
فصار الدافور شخصاً، وصارت النار طموحاً، وصار اللهيب علامة تفوّق.
ليس هذا من الإبداع؟ أليس في هذا التحول الأدبي والمعنوي بلاغة تكتب بماء الذهب «أو زيت الكاز»؟
رغم كل هذا التقدم، رغم الذكاء الاصطناعي والمساعدات الرقمية، لا زلنا نقول للطالب المتفوق: ”دافور“.
ولكأنّ هذا الوصف يربطنا بأصالة الجهد، بحرارة الاجتهاد، بصدق المحاولة.
ليس مجرد طالب ”ذكي“، بل هو ”دافور“ … يشتعل ويشعل، يلهب من حوله بالحماسة، كما ألهمت نار الدافور ذات يوم بيت الجدة بدفء لا يُنسى.
كن دافوراً، ولكن لا تُحرق نفسك.
توهّج، لكن لا تذُب.
طبخ المعرفة لا يكون بـ ”الضغط العالي“ دوماً، فحتى أطيب الطبخات تحتاج ناراً هادئة أحياناً.
ولا تنسَ حين يقول لك أحدهم مازحاً: ”أنت دافور!“
أن تبتسم، تشعل فكاهتك، وترد عليه بابتسامة:
”أحسن من اللي نايم على الفحم وما درى إن اللحم احترق!“
بقلم: الذي أوشك أن يحترق… لكنه يكتب قبل أن يطفئ!