حين تفسح لغيرك... يتسع الضوء للجميع
في خضمّ سباق الحياة، حيث يتسارع الناس نحو التميّز، وتشتدّ المنافسة في ميادين العمل والعلم والإبداع، نادرًا ما تجد من يتوقّف لحظة ليمنح غيره فرصة للظهور والتألّق، ليعبّر، ليُبدع، دون أن يشعر أن في ذلك انتقاصًا من مكانته أو تهديدًا لنجاحه.
إنّ فسح المجال للآخرين للتألّق ليس ضعفًا ولا تراجعًا، بل هو قمّة النبل الإنساني، وعلامة وعيٍ ذاتيٍّ راقٍ، وأحد أعمدة الأخلاق المجتمعية السامية. إنّ في إتاحة المجال للآخرين لبذل أفضل ما لديهم، اعترافًا صادقًا بقدراتهم، وتقديرًا لطاقاتهم، وتعزيزًا للثقة الجماعية لتنمو وتزدهر.
ولأنّ النفس البشرية بطبيعتها تُحب أن يُعترَف بجهدها، وتنتعش حين تجد من يفتح لها المجال لتظهر وتؤثّر، فإنّ من يُتيح للآخرين هذه المساحة، إنما يُسهم في بناء بيئة صحية محفّزة، تُثمر تعاونًا بدلًا من التنافس الهدّام، وتُخرج أجمل ما في الإنسان من طاقات ومهارات.
وحين نتأمّل سيرة النبي محمد ﷺ، نجد هذا الخُلق الكريم متجلّيًا في جميع مواقفه، فقد كان يُعطي كلّ فرد من أصحابه حقّه في التقدير، ويُشعرهم بأنّ لهم مكانةً مهمّة. لم يكن يُقصي أصحاب المواهب، بل يضع كلّ صاحب موهبة في موضعه، ويمنحه فرصة التألّق والإبداع، حتى إنّ بعضًا من أصحابه لمع اسمه في مجالات معيّنة بفضل تلك المساحة التي فتحها لهم الرسول الكريم، دون أن يخشى أن يطغى أحد على نجوميته؛ لأنّه لم يكن يسعى للظهور والتفرّد، بل لبناء أمة ورجالٍ يحملون الرسالة من بعده.
وكذلك كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، حين قال: «قيمة كلّ امرئٍ ما يُحسنه». لقد علّمنا بهذا القول أنّ الإنسان لا يُقاس بجاهه أو حسبه، بل بعطائه الحقيقي، وأنّ علينا أن نعترف بقيمة الآخرين حين يُحسنون، لا أن نُخفي تميّزهم لنبدو وحدنا في الصورة.
وقال في موضع آخر: «قدِّر الآخرين بقدر ما تحبّ أن تُقدَّر، وفسحْ لهم ما تحب أن يُفسَح لك» [غرر الحكم، رقم 4583]. وهذا استدعاء لقيمة العدل والرحمة في التعامل، وهو خُلق القادة الكبار الذين لا يخشون أن يسطع غيرهم، لأنهم واثقون أن سطوعهم لا يُطفئ نورهم، بل يزيده إشراقًا.
إنّ من يملك الثقة الحقيقية بنفسه، لا يرى في بروز الآخرين تهديدًا، بل يراهم شركاء في البناء، لا كمنافسين يجب إقصاؤهم. وهذا الفرق الدقيق هو ما يُميّز النفوس الناضجة عن الأنانية المتخفّية خلف أقنعة التنافس.
وفي الواقع العملي، وحين ننتقل من التنظير إلى التطبيق، نجد أنّ المجتمعات والمؤسسات التي تسود فيها ثقافة الإفساح والتقدير، غالبًا ما تنمو بسرعة؛ لأنّ أفرادها يشعرون بأنهم مرئيّون، مؤثّرون، ذوو قيمة حقيقية. وهذه المشاعر، هي المحرك الأقوى للإبداع والعطاء.
وليس هذا مجرّد انطباعٍ نظري، بل ما تؤكّده دراسات علم النفس الحديث، التي تشير إلى أنّ الإنسان حين يشعر بوجود من يؤمن به، ويمنحه مساحةً للظهور، تتضاعف ثقته بنفسه، وينشط داخليًا، ويُقبل على تقديم الأفضل. أمّا حين يُقصى أو يُهمّش، فإنّ ذلك لا يقتصر على كتم صوته، بل يُطفئ شعلة عطائه، ويحوّله إلى طاقةٍ مكبوتةٍ تنكمش تدريجيًا حتى تذبل.
فمن المهم هنا أن نفرّق بين فسح المجال للآخرين كخُلق نابع من الثقة والإيثار، وبين التنازل عن الذات بدافع الخوف أو قلّة الحيلة. فالمقصود ليس أن ينسحب الإنسان أو يتوارى، بل أن يُتقن فنّ التوازن، ويعرف متى يتقدّم ومتى يُفسح، ومتى يقود ومتى يرفع الآخرين، وأن يكون حضوره بنّاءً لا طاغيًا، ومشاركته مشجّعة لا مانعة.