آخر تحديث: 25 / 4 / 2025م - 10:38 م

6G طفولة في زمن التقنية

هاشم الصاخن *

هل تطوَّر عقل الطفل؛ لأنَّ التقنيَّة تطوَّرت؟

سؤال يبدو بسيطًا؛ لكنَّه يفتح بابًا لفهم الجيل الجديد الذي نشأ في زمن مختلف تمامًا.

منذ أن بدأنا ننتقل من 1G؛ ذلك الجيل الذي بالكاد يرسل مكالمة، إلى 5G الذي يتحكَّم بالعالم من شاشة صغيرة، تغيَّر كلُّ شيء في الأدوات، وفي العقول التي تستخدمها؛ فالطفل اليوم لا ينتظر من يعلِّمه كيف يستعمل التقنيَّة؛ بل أصبح يُتقنها بمفرده، ويصل إلى المعلومة قبل أن تُكتمل في ذهنه صيغة السؤال، وأمَّا الشاب الصغير أخذ يتعلّم من الشاشة أكثر ممَّا يتعلَّم من محيطه، ويعيش يومه متنقلًا بين عوالم الواقع والافتراض كأنَّها شيء واحد.

نحن لا نتحدَّث فقط عن تطور تقني؛ وإنَّما عن تحول عميق في طريقة التَّفكير والتَّفاعل.

جيل اليوم - الذي نُسميه مجازًا 6G - لا يشبه من قبله؛ فهو جيلٌ ذكي، متقد، متفاعل... لكنَّه أيضًا متقلب، مندفع، وأحيانًا مضطرب، وحين ننظر إلى الطفل أو الشاب الصغير اليوم، نجد أنَّه لا ينتظر من يُعلّمه؛ بل يتقدَّم بنفسه نحو المعرفة، ويُجرّب ويُخطئ ويتعلَّم، وكأن لديه دافعًا داخليًا لا يتوقف.

لقد غيّرت التقنية طريقة التعلُّم؛ ولم يعد الطفل بحاجة للشرح المباشر أو التوجيه المطوّل، وكلُّ ما يحتاجه يراه أمامه في مقطع، أو يجده في بحث، أو يعرفه من تطبيق تفاعلي، لحظة بلحظة؛ ولأنَّ عقله تعوَّد على التفاعل السريع، باتت الألعاب اليدوية القديمة لا تُثير فيه الفضول، ولو عرضها عليه أحدهم، سينظر إليها باستغراب؛ وكأنَّها تنتمي إلى زمن آخر، لا زمنه.

إنَّه لا يرى فيها تحديًا، ولا يجد في حركتها البطيئة ما يُرضي شغفه بالتجربة السريعة والانبهار اللحظي؛ والأبعد من هذا أنَّ الطفل نفسه لم يعد يتصرَّف كطفل، ويريد أن يتقمص أدوار الكبار، ويقلّدهم، ويطلب هاتفًا كما يحملونه، ويريد أن يكون جزءًا من عالمهم، لا متفرجًا عليه؛ وفي هذا التحوّل المبكر، تختلط براءة الطفولة بوعيٍ يُقارب نضجًا لا يزال طريًّا؛ لكن التقنية تسقيه كلَّ يوم جرعة أكبر ممَّا يحتمل.

قد لا نصل إلى نتيجة قاطعة لتفسير هذا التغيّر السريع في عقلية الطفل، وقد لا نجد جوابًا دقيقًا على دهشتنا اليومية مما نراه ونسمعه من هذا الجيل؛ إذ نشاهد في كلِّ يوم مشاهد تُربكنا: طفل يُعدّل إعدادات جهاز مُعقَّد، أو يشرح لوالديه طريقة استخدام تطبيق جديد، أو يتعلَّم مهارة رقمية تفوق عمره بأشواط، ونُصفّق له أحيانًا، ونتساءل أحيانًا أخرى:

هل نحن منبهرون فقط؛ لأننا لم نملك هذه الأدوات من قبل؟

هل غياب التقنية عن طفولتنا هو ما يجعلنا نُضخّم قدرات هذا الجيل؟

أم أنَّ هناك فرقًا حقيقيًا، يجعل هذا الجيل مختلفًا في جوهره عن الأجيال السابقة؟

أسئلة تطرق الذهن دون إجابات جاهزة.

لكن المؤكد أنَّ الطفل اليوم لا يعيش في عالمنا السابق، ولا يُشبهنا كثيرًا؛ هو جيل وُلد في زمن مختلف، يتعلَّم بطريقة مختلفة، وينظر للحياة من نافذة لم نعرفها نحن إلَّا في أعمار متأخرة...

إنه باختصار جيل 6G - وقد يكون 10G, جيلٌ سبق التقنية في طريقة معرفته، وربما سبقنا نحن أيضًا في إدراكه لما حوله.

يكفي أن تجلس في مجلس فيه طفل لا يتجاوز السابعة، وتراقب كيف يلتقط هاتف والده؛ يفتح قفل الشاشة، ويتنقل بين التطبيقات، ويبحث في اليوتيوب، ويغيّر الإعدادات من دون تردد، ثمَّ قارن ذلك بطفولتك، حين كنت تُمسك الهاتف الأرضي بكفّين صغيرتين، وتخطئ في طلب الرقم ثلاث مرات قبل أن تُكمله!

وإذا خرجت من البيت، فغالبًا كنت تلعب مع أصدقائك ألعابًا مثل ”التيلة“ أو ”طاق طاق طاقية“ أو "الحجلة، وتضحك من قلبك وكأنَّ العالم لا يتجاوز تلك الحفرة الصغيرة في الرمل، أو ذاك الدوران الحماسي خلف أحدكم وهو يحاول ألَّا يشعر بالطاقية خلفه.

كنا نعتبرها قمة المهارة، أما اليوم، فقد ينظر لها الطفل باستغراب، ويظنها تطبيقًا لم يُحمّل بعد!

قد لا يكون هذا الجيل أفضل من سابقه، ولا أسوأ بالضرورة؛ لكنه مختلف، وله لغته وطباعه وبيئته التي شكّلته؛ فهو جيل تربّى في حضن التقنية، ونضج قبل أوانه، وتعلّم بسرعة فاقت قدراتنا أحيانًا على اللحاق به أو حتى فهمه.

لسنا هنا لنقارن بين جيل لعب ”التيلة“ وجيل يتعامل مع الذكاء الاصطناعي؛ بل لنتأمل الفارق الكبير بين الزمنين، ونفهم أنَّ الطفل لم يعد كما كان، وأنَّ أدوارنا في التوجيه لم تعد كما كانت، وربما لا نملك أن نُبطئ هذا التسارع؛ لكن يمكننا أن نزرع بداخله شيئًا لا يُحدّث ولا يُستبدل: الوعي، الاتزان، والإنسانية.

ففي النهاية، لا يهم إن كان جيلهم 6G أو حتى 10G, ما دام فيهم قلب يعرف كيف يختار، وعقل يتعلم كيف يفرّق بين ما يُقدّم له، وما يستحق أن يُؤخذ منه.

سيهات