آخر تحديث: 1 / 5 / 2025م - 6:30 م

كفانا ثرثرة.. نريد أفعالاً

يُضرب المثل العربي المشهور ”جعجعة بلا طحين“ في وصف أولئك الذين يملؤون الدنيا ضجيجاً، وصخباً ويتفننون في صناعة الأقوال، وكثرة الوعود بينما تخونهم أفعالهم، ويعجزون عن الإنجاز، ويُحجمون عن العطاء، تماماً كالطاحونة تدور بصخب ٍ لكنها لا تطحن قمحاً، ولا تُنتج خبزا، وهذا ما يُعرف اليوم بالثرثرة الإدارية، حيث تُمارس القيادة دور التصريحات والشعارات، والاجتماعات، والعروض التقديمية دون أن ينعكس ذلك على الواقع العملي، والأداء الفعلي أو النتائج الملموسة. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا.

ماذا نقصد بالثرثرة الإدارية؟ وما الفرق بينها وبين الكلام المفيد، وما الأسباب التي تجعل بعض المديرين يهتمون بالأقوال على حساب الأفعال؟ وما علاقتها بالتبرير، وتأثيرها على بيئة العمل، وكيف يمكن مواجهتها كظاهرة إدارية داخل المؤسسات؟

جاء معنى الثرثرة في اللغة: كثرة الكلام بلا فائدة، ويُقال ”ثرثر الرجل“ إذا أكثر من الحديث فيما لا طائل تحته، وجاء في لسان العرب ”الثرثار: هو كثير الكلام فيما لا يُحتاج إليه“.

أما الثرثرة في الإدارة فهي: كثرة التصريحات والمداخلات والاجتماعات والوعود، والضجيج داخل بيئة العمل، دون أن يُرافقها تنفيذ فعلي أو أثر واقعي أو تحسين ملموس في الأداء المؤسسي، وقد ذكرت هارفارد أن ”القادة الذين يكثرون من الكلام دون ربطه بخُطط تنفيذية عملية، يفقدون فرقهم الثقة بنسبة 40%، وأشار تقرير ما كنيزي إلى أن“ الثرثرة الإدارية تمثل أحد أسباب فشل 70% من استراتيجيات التحول المؤسسي "

مع الإشارة إلى أن هناك فرقاً بين التحول والتطور المؤسسي، رغم أنهما يُستخدمان أحيانا بالتبادل، إلا أن بينهما فرقاً في المدى والهدف وطبيعة التغيير.

فالتحول المؤسسي يشير إلى نقلة نوعية شاملة تُعيد تشكيل هوية المؤسسة من الداخل، وتُحدث تغييراً جذرياً في بنيتها وثقافتها ونُظمها التشغيلية، بينما التطور المؤسسي فهو عملية تحسين تدريجي وتراكمي تسعى لرفع كفاءة الأداء داخل الإطار القائم دون تغييره بالكامل، ويشمل تحسين الإجراءات، وتدريب العاملين، وتحديث بعض الأنظمة أو الأدوات، لكنه لا يغيّر جذور المؤسسة أو بنيتها العميقة، وباختصار «التحول يُغير ماهية المؤسسة، أما التطور فيُحسّن كيف تعمل المؤسسة».

أما الكلام الإداري فهو: التواصل اللفظي المنظم والمقصود الذي يستخدمه القائد أو المدير لشرح السياسات، وتوجيه الأوامر، وتحديد الأهداف، وتحفيز الأفراد، ومعالجة المشكلات، وبمعنى آخر الكلام الإداري ليس مجرد تبادل كلمات، بل هو أداة قيادة وتوجيه وصنع القرار.

غير أن المعضلة الإدارية الكبرى تكمن في الفصام بين الكلام والأفعال، وكما قالوا قديماً ”أسمع جعجعة ولا أرى طحيناً أو كما قال كونفوشيوس وهو «فيلسوف ومُعلم صيني» ويُعد واحداً من أهم الشخصيات الفكرية والأخلاقية في التاريخ الإنساني“ لا تخف من أن تمشي ببطء، بل خف من أن تقف دون أن تتحرك "

لماذا يركّز المديرون على الكلام أكثر من الأفعال

بات من الملاحظ أن بعض المديرين يبالغون في إطلاق التصريحات، وعقد الاجتماعات، ورفع الشعارات الرنانة، بل ويكثرون من الوعود، والبيانات لكنهم يعجزون عن تحويل أقوالهم إلى أفعال حقيقية، وهذا ما تشير إليه الاتجاهات الحديثة في علم الإدارة كما ورد في كتاب ”Measure what Matters“ قياس ما يهم، لجون دور، إلى أن المؤسسات الناجحة لم تُبنَ على كثرة التصريحات، بل على دقة التنفيذ، ومع ذلك لا تزال بعض بيئات العمل تعاني من التخمة اللفظية مقابل شح الفعل؛ مما يؤدي إلى ضعف الثقة، وتآكل الروح المعنوية وانخفاض معدلات الإنتاجية.

وأن هذه الظاهرة ليست مصادفة، بل تقف خلفها مجموعة من الأسباب النفسية والإدارية والتنظيمية، ولعل من أبرز أسباب هذه الظاهرة:

1- السعي وراء الظهور والتلميع الإعلامي: وهو يعني أن المدير أو القائد يهتم بالظهور بمظهر لا مع أمام الناس والإعلام عبر التصريحات، والمقابلات، والصور، والفعاليات، والمظاهر الاحتفالية أكثر من اهتمامه بتحقيق إنجازات حقيقية على أرض الواقع بمعنى آخر يبحث عن الصورة الجميلة بدل من النتائج الحقيقية.

2- الخوف من الفشل أو المحاسبة: ويعني أن المدير أو القائد يتردد أو يحجم عن اتخاذ خطوات عملية حقيقية؛ لأنه يخشى أن يفشل في تحقيق النتائج أو أن تتم محاسبته بشدة إذا أخطأ أو لم يحقق الأهداف المتوقعة أو بمعنى آخر يخشى أن يُتهم بالتقصير إذا أخطأ في التنفيذ، أو يخاف أن يفقد منصبه أو مكانته إذا لم ينجح، أو قد يخشى النقد العلني أو التقارير السلبية التي قد تصدر بحقه، مثل " مدير يتحدث كثيرا عن تطوير الأداء، لكنه لا يشرع فعلياً في التنفيذ؛ لأنه قلق من أن يفشل المشروع، وتتم محاسبته أمام الإدارة العليا، فيكتفي بالكلام النظري والمماطلة.

3- ضعف الكفاءة الإدارية والقيادية: ويعني أن المدير أو القائد يفتقر إلى المهارات والمعرفة والخبرة اللازمة لإدارة الأفراد والموارد والعمليات، أو قد لا يستطيع التخطيط أو تنظيم العمل بطريقة فعالة، ولذلك تراه يركز على التفاصيل الصغيرة أو القضايا الجانبية، بينما يغفل تماما عن الأولويات الكبرى مثل " مدير لا يعرف كيف يوزع المهام على فريقه بفعالية، فيُرهق بعض الأفراد، ويترك آخرين بلا دور، مما يؤدي إلى تراجع الأداء العام، أو قائد يواجه أزمة، لكنه يتعامل معها بتردد وفوضى؛ لأنه يفتقر إلى الخبرة اللازمة لإدارة الأزمات.

آثار التركيز على الأقوال لا الأفعال

حين نتأمل بيئات العمل من حولنا نجد أن من أخطر المشكلات التي تفتك بالمؤسسات هي الفصل بين ما يُقال وما يُفعل، حيث تكثر الوعود، والخطابات، والشعارات البراقة بينما يقل التنفيذ الفعلي والالتزام الحقيقي، فتتآكل الثقة تدريجياً، ويتلاشى الحماس، بل وتتحول بيئات العمل إلى ساحات للانتظار والتبرير بدلا من أن تكون منصات للإنجاز والتقدم، وهو ما تؤكده تقارير ماكينزي التي ربطت بين انفصال الأقوال عن الأفعال وتراجع مستويات الولاء الوظيفي والإنتاجية بنسبة تصل إلى 30%, بل إن بعض الدراسات الحديثة تشير إلى أن الشعور المستمر بالخيبة الناتج عن الوعود غير المُنجزة يُضعف الالتزام المهني بنسبة قد تتجاوز 40% خلال ثلاث سنوات فقط.

وقد شاهدتُ بنفسي، كما أثبتت دراسات Amy Edmondson إيمي إدموند سون ”وهي أستاذة أميركية بارزة في مجال السلوك التنظيمي والقيادة، وتُعد من أهم الباحثين المعاصرين في موضوع الثقافة المؤسسية وخاصة مفهوم الأمان النفسي في بيئات العمل“ أن بيئات العمل التي يغلب عليها طابع الكلام دون التنفيذ تتحول مع الوقت إلى بيئات مشبعة بالتبرير والخوف من المبادرة والبحث عن شماعات للفشل بدلا من معالجات حقيقية له.

ولعل من أبرز النتائج السلبية هي:

1- فقدان الثقة المؤسساتية: ويعني أن الناس سواء أكانوا موظفين أو عملاء أو جمهور ا عاماً لم يعودوا يؤمنون بأن المؤسسة تؤدي دورها بصدق، أو أنها تحترم القيم التي تدّعيها أو تحقق وعودها، أو أنها لا تتصرف بشفافية، ولا تلتزم بمسؤولياتها، أو أنها تسعى وراء مصالحها على حساب مصلحة الموظفين أو العملاء مثل شركة ”ميتا“ حاليا ”فيسبوك سابقاً“ بعد فضيحة كامبريدج أناليتيكا عام 2018 م حيث فقد كثير من الناس الثقة في الفيسبوك بعدما تبين أن بيانات ملايين المستخدمين قد استُخدمت بدون إذن لأغراض سياسية، وعلى الرغم من اعتذار الشركة ومحاولتها إصلاح الأضرار عبر تحديث سياساتها، وتعزيز إجراءات الخصوصية، إلا أن الضرر الذي لحق بسمعتها كان بالغا، وأدى إلى انخفاض حاد في أسهم الشركة وتراجع كبير في مستوى الثقة العام بها، وهو ما استمر تأثيره لسنوات لاحقة.

2- اهتزاز الدافعية الذاتية: ويعني ضعف الحماس الداخلي لدى الفرد للقيام بعمله أو تحقيق أهدافه، وغالبا ما يكون بسبب الصدمات النفسية أو خيبات الأمل المتكررة مثل موظف شغوف التحق بشركة ناشئة بروح عالية وحماس كبير ومع مرور الوقت لاحظ أن جهوده لا تُقدر، والترقيات تُمنح بالمحسوبية، وأن الإدارة تفتقر إلى الوضوح والرؤية، فأصبح يأتي متأخراً، ويتأخر في إنجاز مهامه، ويفقد اهتمامه بالنتائج.

3- تدهور سمعة المؤسسة داخلياُ وخارجياً: ويعني أن الصورة الذهنية التي يحملها الناس عن المؤسسة، سواء كانوا موظفين أو عملاء أو جمهور أصبحت سلبية أو مشوهة، مثل شركة وِيرك WeWork وفكرتها تقديم مساحات عمل لرواد الأعمال «الشركات الناشئة وحتى الشركات الكبرى» أي كانت تعتمد على استئجار عقارات طويلة الأجل ثم إعادة تصميمها وتأجيرها للمستأجرين لفترات قصيرة بأسلوب عصري، ولكن بسبب سوء الإدارة، والفضائح المالية، والتصرفات غير المهنية للمدير التنفيذي انهارت سمعتها بسرعة.

4- انتشار ثقافة التبرير والهروب من المسؤولية: ويعني أن الأفراد داخل المؤسسات أو حتى في المجتمع عندما يواجهون مشكلة أو إخفاقاً، لا يعترفون بأخطائهم، بل يسارعون إلى تقديم أعذار ومبررات، بل ويلقون باللوم تارة على الآخرين وتارة أخرى على الظروف بدلاً من التعامل بشجاعة مع الخطأ وتصحيحه ومع مرور الزمن تتحول هذه الممارسات إلى ثقافة عامة مثل بعض الشركات أو المؤسسات البيروقراطية، عندما تتأخر المشاريع، أو تفشل لا أحد يتحمل المسؤولية وإنما يتم تقديم عشرات الأعذار كنقص الميزانية، وتغيّر التعليمات، وتأخر الموردين... وهكذا تظل النتائج ضعيفة والمشاكل تتكرر؛ لأن أحداً لا يُحاسب نفسه بصدق، حتى إن هناك إحصائية تقول إن أكثر من 70% من المشاريع التي تفشل داخل المؤسسات أو الشركات تُعزى إلى ضعف تحمل المسؤولية من قبل القادة.

بين الثرثرة والتبرير

أن كليهما يستخدم غالباّ ك ”آلية دفاعية“ للهروب من مواجهة الواقع أو تحمل المسؤولية.

الثرثرة الإدارية تعني: الإفراط في الحديث عن المشاريع، والخطط، والمشكلات، والنوايا، دون اتخاذ إجراءات عملية حقيقية، بينما التبرير: هو محاولة إعطاء أسباب وأعذار لعدم تحقيق النتائج أو لفشل الخطط أو لضعف الأداء وهو غطاء لحماية صورة القائد أو الإدارة أمام الآخرين.

استراتيجيات الحد من الثرثرة والتبرير الإداري

من خلال تجربتي العملية اعتقد أن الحل لا يكمن في كثرة التعليمات، ولا في تكرار الخطابات، بل في ترسيخ ثقافة العمل الفعلي ومتابعة التنفيذ الحقيقي، فقد رأيت بنفسي كيف تضيّع ساعات العمل الثمينة داخل المكاتب، أو في أروقة الاجتماعات، بين حديث متكرر عن المشكلات، وبين أعذار لا تنتهي لتبرير الفشل، ومن هنا أصبح من اللازم علينا تبني بعض الخطوات المهمة وهي كالتالي:

1- وضع أهداف محددة وقابلة للقياس: فحين تغيب الأهداف الواضحة تصبح بيئات العمل ميداناً رحباً للثرثرة والتبرير، وذلك بسبب الفراغ الذي تخلقه الغايات الغامضة أو العائمة؛ مما يدفع الأفراد إلى ملء هذا الفراغ بالكلام بدلا من الإنجاز، ولكن عندما تُرسي أهداف دقيقة، ومحددة، وقابلة للقياس يحدث تحول جوهري في بنية المؤسسة، فتصبح الأفعال لا الأقوال هي لغة التواصل الأساسية، وينتقل التركيز من التبرير والتفسير إلى التنفيذ والإنجاز الفعلي.

2- متابعة الأداء بناءً على النتائج لا الوعود: ويعني أن تقيس وتُقيم عمل الأفراد أو الفريق بناءً على ما أنجزوه فعليا، وليس بناءً على ما وعدوا أو قالوا إنهم سينجزونه.

3- تعزيز ثقافة الصراحة وتحمل المسؤولية: مثل: شركة تقنية التي طبقت قاعدة بأن أي مشروع يُعرض في اجتماع يجب أن يترافق مع جدول زمني واضح ومسؤولين محددين.

وفي الختام يمكننا أن نقول: لقد آن الأوان بأن نستبدل الأقوال بالأفعال، فالنجاح لا يُصنع بالكلمات ولا بالضجيج، بل بالعمل الجاد والنتائج الملموسة، وأن العالم لا ينتظر المزيد من الوعود، بل يتطلع إلى من يحول الأقوال إلى إنجازات.